الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ألفاظ (العقاب) في القرآن

ألفاظ (العقاب) في القرآن

ألفاظ (العقاب) في القرآن

ليس بخاف أن مبدأ الثواب والعقاب مبدأ أقرته شرائع السماء، وقامت عليه شرائع الأرض؛ وأنه سنة كونية جارية في الدنيا قبل الآخرة؛ وقوانين الأرض ضمَّنت قوانينها الجزائية، مادة تنص على أن (لا عقوبة من غير ذنب)؛ والقرآن يقرر عقوبة الدنيا قبل عقوبة الآخرة، لمن عصى أمره، وخالف نهجه، يقول تعالى: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} (التوبة:101).

والقرآن الكريم استعمل عدة ألفاظ، محورها مبدأ العقوبة؛ نذكر منها الألفاظ التالية: (العقاب، العذاب، الرجز، النكال). والمعنى المشترك لهذه الألفاظ يدل على العقوبة، سواء كانت في الدنيا أم كانت في الآخرة. وإليك مزيد تفصيل لما يتعلق بهذه الألفاظ الأربعة.

العذاب

وردت مادة (عذب) في القرآن كاسم في أكثر من ثلاثة مائة موضع، منها قوله تعالى: {فذوقوا العذاب} (آل عمران:106)؛ ووردت كفعل في ستة وعشرين موضًعا، منها قوله تعالى: {يعذب من يشاء} (المائدة:40)؛ ووردت كاسم فاعل في ثمانية مواضع، منها قوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء:14).

وقد جاء وصف (العذاب) في القرآن بـأنه (أليم) في ثلاثين موضعًا تقريبًا، منها قوله تعالى في المنافقين: {ولهم عذاب أليم} (البقرة:10)؛ وبأنه (شديد)، في نحو خمسة عشر موضعًا، منها قوله تعالى: {إن عذابي لشديد} (إبراهيم:7)؛ وبأنه (عظيم) في خمسة عشر موضعًا، منها قوله تعالى في المنافقين: {ولهم عذاب عظيم} (البقرة:7).

و(العذاب) في اللغة: هو الإيجاع الشديد؛ يقال: عذبه تعذيبًا، أي: عاقبه، أو أكثر حبسه في العذاب. وقد قال بعض أهل اللغة: أصل (العذاب) الضرب؛ ثم استعير ذلك في كل شدة.

ثم إن (العذاب) في القرآن جاء على تسعة أوجه:

أولها: العقوبة في الآخرة، وهذا الوجه هو الأكثر استعمالاً في القرآن والأغلب، منه قوله تعالى في وصف جهنم: {إن عذابها كان غراما} (الفرقان:65)، أي: إن عقوبتها؛ وقوله سبحانه: {ولعذاب الآخرة أشق} (الفرقان:34)، أي: إن عقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا.

ثانيها: العقوبة في الدنيا، ومنه قوله تعالى: {أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم} (الأنعام:65)، كما فعل بقوم لوط، حيث قلب عليهم القرية التي كانوا يسكنون فيها، وجعل عاليها سافلها؛ وقوله تعالى: {أو من تحت أرجلكم} (الأنعام:65)، كما فعل بـ قارون، حيث خسف به وبداره الأرض.

ثالثها: حد الزنى، ومنه قوله تعالى: {وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين} (النور:2)، يعني: حدهما؛ وكذلك قوله سبحانه: {ويدرأ عنها العذاب} (النور:8)، أي: الحد.

رابعها: المسخ، ومنه قوله تعالى: {وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس} (الأعراف:165)، أي: مسخناهم.

خامسها: الاستئصال والقتل، ومنه قوله تعالى: {وما كان الله ليعذبهم} (الأنفال:33)، أي: عذاب القتل المهين بأيدي المسلمين يوم بدر؛ ونحوه قوله سبحانه: {ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا} (الحشر:3)، يعني: لقتلوا بالسيف.

سادسها: الجوع والمجاعة، ومنه قوله تعالى: {حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب} (المؤمنون:64)، أي: ابتليناهم في الدنيا بالجوع، والقحط؛ ونحوه قوله سبحانه: {ولقد أخذناهم بالعذاب} (المؤمنون:76)، أي: بالجوع.

سابعها: سلب المال وإهلاكه، ومنه قوله تعالى في أصحاب البستان الذين منعوا زكاة محصوله ونتاجه: {كذلك العذاب} (القلم:33).

ثامنها: نتف الريش وقص الجناح، وهو قوله تعالى في هدهد سليمان عليه السلام: {لأعذبنه عذابا شديدا } (النمل:21)، أي: لأنتفن ريشه. روى ذلك الطبري عن ابن عباس رضي الله عنهما، ومجاهد وقتادة.

تاسعها: جاء العذاب بمعنى عذاب القبر، ومنه قوله تعالى: {ولنذيقنهم من العذاب الأدنى} (السجدة:21)، أي: عذاب القبر.

العقاب

مادة (عقب) في أصلها اللغوي تدل على (التلو)، وهو أن يتلو الثاني الأولَ ويتبعه، يقال: عقب الثاني الأول، إذا تلاه. وهذه المادة تدل على أمرين؛ أحدهما: تأخير شيء، وإتيانه بعد غيره؛ تقول: فعلتُ ذلك بعاقبة، أي: بآخرة؛ و(التعقيب): أن يأتي بشيء بعد آخر. ومن هذا الأصل، سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم (العاقب)؛ لأنه عقب من كان قبله من الأنبياء عليهم السلام. الثاني: تدل على ارتفاع وشدة وصعوبة، ومنه سميت (العقبة) التي تكون في الجبل، لصعوبة الوصول إليها. ثم ردَّ إلى هذا المعنى كل أمر فيه شدة.

وقد تواردت هذه المادة في القرآن كاسم (العقاب)، في أربعة وعشرين موضعًا، منها قوله تعالى: {واعلموا أن الله شديد العقاب} (البقرة:196)؛ وجاء اسم (العاقبة) في واحد وثلاثين موضعًا، منها قوله تعالى: {والعاقبة للمتقين} (الأعراف:128)؛ وجاء اسم (العقبى) في أربعة مواضع، منها قوله تعالى: {أولئك لهم عقبى الدار} (الرعد:22)؛ وكفعل في نحو ستة مواضع، منها قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم} (النحل:126).

ولفظ (عقب) ومشتقاته، جاء في القرآن على ستة أوجه:

أولها: بمعنى العذاب، وهذا المعنى هو الأكثر استعمالاً في القرآن؛ من ذلك قوله تعالى: {فكيف كان عقاب} (الرعد:32)، أي: عذابي؛ ونحوه قوله سبحانه: {أن الله شديد العقاب} (البقرة:196).

ثانيها: بمعنى الغنيمة، من ذلك قوله تعالى: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم} (الممتحنة:11)، أي: غنمتم.

ثالثها: بمعنى القتل، من ذلك قوله تعالى: {ومن عاقب بمثل ما عوقب به} (الحج:60)، أي: قَتل بمثل ما قُتل به.

رابعها: بمعنى المثلة، من ذلك قوله تعالى: {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم} (النحل:126)، أي: إن مثلتم بمثل ما مثِّل بكم.

خامسها: بمعنى العاقبة، آخر الشيء، من ذلك قوله تعالى: {فكان عاقبتهما} (الحشر:17)، أي: فكان آخر أمرهما.

سادسها: بمعنى العقبى، أي: المأوى، من ذلك قوله تعالى: {أولئك لهم عقبى الدار} (الرعد:22)، أي: المأوى في الآخرة.

الرجز

أصل مادة (رجز) الاضطراب، ومنه قيل: رجز البعير رجزًا، فهو أرجز، وناقة رجزاء: إذا تقارب خطوها واضطرب لضعف فيها. ومن هذه المادة اشتق (الرجز) في الشعر.

ولفظ (الرجز) ورد في القرآن تسع مرات كاسم، ولم يرد كفعل مطلقًا، ومن مواضع وروده، قوله تعالى في حق قوم موسى عليه السلام: {ولما وقع عليهم الرجز} (الأعراف:134).

و(الرجز) في القرآن ورد على معنيين:

أحدهما: بمعنى العذاب، وهذا هو الغالب في استعمال هذا اللفظ في القرآن، من ذلك خبر القرآن عن طلب قوم موسى عليه السلام: {لئن كشفت عنا الرجز} (الأعراف:134)، أي: العذاب.

ثانيهما: بمعنى الصنم، جاء هذا المعنى في قوله سبحانه: {والرجز فاهجر} (المدثر:5)، يعني: دع عنك عبادة الأصنام.

النكال

مادة (نكل) في أصلها اللغوي، تفيد المنع والامتناع، وإلى هذا الأصل ترجع مشتقات هذه المادة؛ يقال: نكل عن الأمر: إذا امتنع، ومنه النكول في اليمين، وهو الامتناع منها، وترك الإقدام عليها؛ ونكل عن الشيء: إذا ضعف عنه وعجز؛ ونكلته: قيدته؛ والنكل: قيد الدابة، وحديدة اللجام؛ لكونهما مانعين، والجمع: الأنكال؛ قال تعالى: {إن لدينا أنكالا وجحيما} (المزمل:12)؛ ونكلت به: إذا عاقبته بما يردعه، ويرُوع غيره من إتيان مثل ما صنع. والاسم من ذلك الفعل (النكال)، قال تعالى: {فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها} (البقرة:66).

ولفظ (نكل) كاسم، ورد في القرآن في خمسة مواضع، منها قوله تعالى في حق السارق والسارقة: {فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله} (المائدة:38)؛ ولم يرد في القرآن كفعل قط.

وبالتتبع وجدنا أن (النكال) في القرآن، قد جاء على معان ثلاثة:

أولها: بمعنى القيد والأغلال، كما في قوله تعالى: {إن لدينا أنكالا وجحيما}، قال الحسن: قيودًا.

ثانيها: بمعنى العبرة والموعظة، كما في قوله تعالى: { فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها}، أي: عبرة تنكل من اعتبر بها، وتمنعه عن مثل ذلك الفعل؛ ومنه أيضًا قوله تعالى في حق فرعون: {فأخذه الله نكال الآخرة والأولى} (النازعات:25)، أي: انتقم الله منه انتقامًا، جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين.

ثالثها: بمعنى العقوبة والجزاء، كما في قوله تعالى: {فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله}، أي: عقوبة وجزاء على فعلهما.

ثم إن العلماء ذكروا بعض الفروق بين هذه الألفاظ؛ من ذلك أن (العقاب) يكون عن استحقاق لذنب ارتكبه الإنسان؛ أما (العذاب) فقد يكون نتيجة ذنب مرتكب، وقد لا يكون نتيجة عن ذنب، وإنما لمجرد التشهي أو غير من ذلك. وهذا الفرق يستقيم في (عذاب) البشر، أما في (عذاب) الله، فلا يكون (عذاب) سبحانه إلا عن استحقاق ذنب مرتكب.

وذكروا كذلك من الفروق بين (العقاب) و(النكال)؛ أن (العقاب) هو جزاء الشر، و(النكال) أخص منه، أي: أنه عقاب من نوع خاص؛ فبين اللفظين عموم وخصوص، فكل نكال عقاب، وليس كل عقاب نكالاً؛ فقد يعاقب الإنسان عقابًا، لا يكون فيه نكال، وإنما مجرد عقاب عام؛ وقد يعاقب عقابًا على وجه خاص فيه تنكيل.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة