الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إسرائيل تكسب حرب الكلمات

إسرائيل تكسب حرب الكلمات


الحكاية التالية من الشرق الأوسط وأصبحت مألوفة : (( قصف الفلسطينيون مساء أمس مستوطنة إيل سيناء الواقعة في أقصى شمال قطاع غزة بثلاث قنابل ، وقد ردت القوات الإسرائيلية على القصف بنيران الدبابات فدمرت موقعًا فلسطينيًا وأصابت منزلين )).

هذا التقرير الذي صادف أن أذيع من هيئة الإذاعة البريطانية ، لم يعد مألوفًا فقط لأسباب تتعلق بالأحداث التي يصفها، بل بسبب الطريقة التي يقدم بها الوصف : الفلسطينيون يشنون الهجوم والإسرائيليون يبادرون بـ (( الرد )) .

وهكذا فإن الأعمال العسكرية التي يقوم بها الإسرائيليون تكون دائما بمثابة (( رد )) على تهديد للأمن ، والحال أن (( الرد )) كلمة مفيدة جداً ، فهي توفر للأعمال التي يقوم بها الإسرائيليون حجة جاهزة ، وتستبعد بكل بساطة المطالبة بالمزيد من الشرح والإيضاح ، إنها تقول (( لا تسألونا لماذا فعلنا ذلك ، بل اسألوا الطرف الآخر )).

لا فائدة عند هذا الحد من النحو باللائمة على الإسرائيليين لأنهم لجأوا إلى استعمال هذه الحيلة ، فالسؤال الذي يستحق الطرح إنما يتعلق بما إن كان على الصحافيين أن يسمحوا بأن تحدد تلك الحيلة الطريقة التي ينقلون بها أخبار النزاع ، ولا شك في أن تصوير النزاع باعتباره سلسلة من العمليات التي يقوم بها الفلسطينيون وما يتبعها من ردود أفعال إسرائيلية ، مسألة خطيرة لأسباب عدة .

فهي تدعم أولاً ، الحجة الإسرائيلية القائلة إنه لو أوقف الفلسطينيون عنفهم فإن كل شيء سيصبح على ما يرام ، قد يكون هذا صحيحًا بالنسبة لكثير من الإسرائيليين ، ولكن ليس بالنسبة للفلسطينيين .

كما أنها تقوم، ثانيا عن طريق التكرار المستمر ، بخلق انطباع مضلل عن النزاع بكليته ، فالعنف ليس سلسلة من العلميات غير المترابطة وردود الفعل عليها ، بل هو دائرة متصلة الحلقات تشحن بها علميات كل طرف علميات الطرف الآخر.

ثالثا : العلميات التي يقوم بها الإسرائيليون تنقل عبر أجهزة الإعلام باعتبارها

(( ردود فعل )) مبررة ، وأما العلميات التي يقوم بها الفلسطينيون فنادرًا ما يسمح لها بأن تورد ضمن سياق إعلامي مناسب ، أو تكون مشفوعة بشرح مفهوم للدوافع الكامنة وراءها .

من الواضح أن ثمة حداً لما يمكن أن يقال في تقرير أخباري مؤلف من 300ـ 400 كلمة ، كما أن الصحافيين سيقولون إن عملهم الرئيسي هو نقل الأحداث وليس تفسير خلفياتها ، على أني لا أدعو هنا إلى تحويل التغطيات الأخبارية إلى محاضرات في التاريخ ، وإنما أشير إلى ضرورة وجود إطار أوسع لها ، وأن الفلسطينيين ربما (!) كانت لهم ظلامات مشروعة.

وإنجاز ذلك ليس صعباً، فضلا عن أنه لا يستهلك قدراً كبيراً من الكلمات ؛ فتقارير أخبار بعض الوكالات نادراً ما تتضمن تغطياتها الإعلامية إشارة بخمس كلمات إلى (( النضال الفلسطيني، ضد الاحتلال الإسرائيلي )) . وهذا (( الاحتلال الإسرائيلي )) هو جوهر الصراع ، لكن الصحافيين غالبًا ما يخفقون في تذكير قرائهم به ، وقد تبين لي من خلال البحث في أرشيف جريدة (( جارديا )) الإلكترونية ، الذي يشتمل على الصحف البريطانية اليومية بالإضافة إلى جريدة (( لندن ايفننج ستاندارد )) أن هناك 1669 تغطية إخبارية نشرت خلال 12 شهراً ، أشارت إلى الضفة الغربية .

وتبين أن ثمة 49 تغطية من أصل تلك التغطيات تضمنت عبارة (( الضفة الغربية المحتلة))، وأن 513 تغطية تضمنت كلمة (( محتلة )) أو (( احتلال )) في أماكن أخرى من النص ، وهذا يعني وجود 1107 تغطية إعلامية ـ أي نسبة 66% من المجموع ـ تناولت الضفة الغربية من دون أن تشير إلى الحقائق الرئيسية ، ويبدو أن بعض الصحافيين ـ وخاصة الأمريكيين ـ مترددون في التعامل مع الاحتلال باعتباره حقيقة واقعة، فهم يتناولونه باعتباره مسألة رأي يجب أن ينسب إلى جهة معينة . ففي أكتوبر ( تشرين الأول ) الماضي مثلاً أخبر مدير مكتب (( سي أن أن )) في القدس مشاهديه بأن الفلسطينيين غاضبون بسبب : ( ما يتعبرونه احتلالاً إسرائيليًا ) ! .

وثمة صحافيون آخرون يلجؤون إلى استعمال تعابير مخاتلة تحاول تلطيف المعنى، فالضفة الغربية توصف باعتبارها : (( متنازع عليها )) أو (( تدار من قبل إسرائيل )). كما يقوم البعض بممارسة ما درج عليه المسؤولون الإسرائيليون عندما يختصرون عبارة : (( المناطق المحتلة )) إلى كلمة (( المناطق )) وهناك صحافيون يتسمون بشيء من الجبن عندما يتعلق الأمر بالمستوطنين اليهود ؛ فهم يصورونهم عادة باعتبارهم هدفًا للعنف غير أنه نادرًا ما يشار إليهم باعتبارهم السبب الرئيسي له ( وهم كذلك في واقع الأمر ) . وقد أوضحت بعض التغطيات الصحافية لحادث مقتل (( سلهيفت باس )) ، الطفلة اليهودية البالغة من العمر عشرة أشهر ، أن المستوطنين في الخليل عددهم صغير وأنهم متطرفون ، غير أن ثمة صحافيين عديدين لم يفعلوا ذلك .

ويوجد تقرير صحافي واحد وصف الخليل بأنها (( مدينة مقسمة )) ، هذا على الرغم من كون نسبة السكان العرب فيها 99.8% . أما القدس فتوصف دائما بأنها ( غير مقسمة ) على الرغم من أن ثلثي سكانها من اليهود وثلثهم من العرب ، وخلال الشهور الـ12 الماضية أشارت 394 تغطية إخبارية إلى المستوطنين اليهود ، منها سبع تغطيات تضمنت عبارة : ( مستوطن متطرف) بينما تضمنت ثماني تغطيات عبارة (( مستوطن يهودي متطرف )) . وقد وردت صفة (( متطرف )) في 44 تغطية إخبارية من دون أن يعنى ذلك أنها تشير إلى المستوطنين بالضرورة ، وثمة تغطيات اكتفت بوصف المستوطنين بأنهم (( يهود)) ، بينما وصفت الفلسطينيين بـ (( المتطرفين )) .

أما عدم مشروعية المستوطنات حسب القانون الدولي فأمر لا يتم التطرق إليه في معظم الأحيان ؛ فعبارة (( مستوطنة غير شرعية )) ظهرت في سياق إسرائيلي فلسطيني ثماني مرات فقط خلال 12 شهراً ، منها ثلاث مرات في رسائل القراء إلى المحرر ، وخلال المراحل الأولى من الانتفاضة اتهمت الصحافة بأنها عمدت إلى نزع (( الإنسانية )) عن الفلسطينيين عندما كانت تنشر عدد قتلاهم مغفلة أسماءهم ، وقد قورن هذا الوضع بالتغطيات المشبعة بالمعلومات الشخصية الكثيرة التي كانت تقدمها السلطات الإسرائيلية حول الخسائر اليهودية ، ومع ذلك فلا شك في أن غياب أسماء القتلى من الفلسطينيين لم يكن نتيجة لسياسة متعمدة من قبل الصحافيين ، وعلى الرغم من وجود بعض الصعوبات في الحصول على الأسماء أحياناً ، فقد كانت الجهود تبذل من أجل معالجة هذا الأمر . كما أن البحث كشف ممارسة أخرى ، فاليهود يعيشون في (( مجتمعات )) بينما يعيش الفلسطينيون في (( مناطق )) ، ومن الواضح أن هذا ليس متعمداً لكن يكشف تصوراً ـ ربما كان غير واع ـ مفاده أن الفلسطينيين أقل تحضراً .

ويكشف تقرير نشر في صحيفة (( تايمز )) على طريقة (( سي أن أن )) أن (( الفلسطينيين يعتبرون مستوطنة جيلو غير شرعية )) ، صحيح أنهم يفعلون ذلك .. ولكن هذا هو رأي القانون الدولي أيضاً .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة