الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

غزوة تبوك....والمواجهة الأخيرة

غزوة تبوك....والمواجهة الأخيرة

غزوة تبوك....والمواجهة الأخيرة

من كان يصدّق أن العرب الذين كانوا مجرّد قبائل متناحرة ، ليس لهم كيانٌ يُذكر ، ولا أيّ قدرةٍ على مواجهة الأخطار الخارجيّة ، سيأتي عليهم يومٌ يتوّحدون فيه ، وتكون لهم دولة مستقلّة ، ويجابهون أعظم قوّةٍ في ذلك الزمان ، ويغزونها في عقر دارها ؟ .

إنّ ذلك لم يكن ليتحقّق إلا في ظلّ رسالة الإسلام ، والتي أصبح المسلمون من خلالها قوةً يحسب لها الآخرون ألف حساب ، حتى استطاعوا أن يعودوا إلى مكّة فاتحين خلال ثمان سنين من هجرتهم ، ليستقبلوا أفواج الناس التي أقبلت للدخول في دين الله .

فبعد استقرار الوضع الداخليّ في مكّة ، توجّه النبي - صلى الله عليه وسلم – بالنظر إلى الخارج لإكمال مهمّة الدعوة والبلاغ ، خصوصاً وأنّ الأنباء كانت قد وصلت إليه أنّ الروم بدأت بحشد قوّاتها لغزو المسلمين ، فأراد النبي - صلى الله عليه وسلم – أن يبادرهم بالخروج إليهم ، في غزوة عرفها التاريخ باسم " غزوة تبوك " .

وقد جاءت تسمية هذه الغزوة من " عين تبوك " التي مرّ بها المسلمون وهم في طريقهم إلى أرض الروم ، وسُمّيت أيضاً بــ" غزوة العسرة " لما اجتمع فيها من مظاهر الشدّة والعسرة، حيث حرارة الجوّ ، وندرة الماء ، وبعد المكان ، وفوق هذا وذاك كان المسلمون يعيشون حالة من الفقر وضيق الحال ، وقد أشار القرآن الكريم إلى تلك الحال في قوله تعالى : { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } ( التوبة : 117 ) .

ونظراً لتلك الظروف الصعبة ، استقرّ رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - على التصريح بجهة الغزو على غير عادته ، وذلك لإدراكه بعد المسافة وطبيعة العدوّ وحجم إمكاناته ، مما يُعطي الجيش الفرصة الكاملة لإعداد ما يلزم لهذا السفر الطويل ، إضافةً إلى إن وضع الدولة الإسلامية قد اختلف عن السابق ، حيث تمكّن المسلمون من السيطرة على مساحاتٍ كبيرةٍ من الجزيرة العربية ، ولم يعد من الصعب معرفة وجهتهم القادمة .

وهكذا أعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - النفير ، وحث الناس على الإنفاق في سبيل الله قائلاً : ( من جهّز جيش العسرة فله الجنة ) رواه البخاري ، فاستجاب الصحابة لندائه ، وضربوا أروع الأمثلة في البذل والعطاء ، فأما عثمان بن عفان رضي الله عنه فانطلق مسرعاً إلى بيته وأخذ ألف دينار ووضعها بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وتكفّل بثلاثمائة بعير بكامل عدّتها ، فاستبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعله وقال : ( ما ضرّ عثمان ما عمل بعد اليوم ) رواه الترمذي .

وحاول عمر بن الخطاب أن يسبق أبا بكر فأتى بنصف ماله ، وإذا بأبي بكر رضي الله عنه يأتي بكل ما عنده دون أن يُبقي لأهله شيئاً ، فقال عمر رضي الله عنه : " والله لا أسابقك إلى شيء أبداً " .

وتصدّق عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه بألفي درهم ، إلى جانب الصدقات العظيمة التي قدّمها أغنياء الصحابة كالعباس بن عبد المطلب ، و طلحة بن عبيد الله ، و محمد بن مسلمة ، و عاصم بن عدي ، رضي الله عنهم أجمعين .

وكان لفقراء المسلمين نصيبٌ في الصدقة ، حيث قدّموا كل ما يملكون في سبيل الله مع قلّة ذات اليد ، فمنهم من أتى بصاعٍ من تمر ، ومنهم من جاءّ بنصف صاعٍ أو أقلّ .

ووقف علبة بن زيد رضي الله عنه ينظر إلى جموع المسلمين ، وهي تتسابق على الإنفاق والصدقة ، والحسرة تملأ فؤاده حيث لم يجد ما يتصدّق به ، فلما جاء الليل وقف يصلّي ويبكي ، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: " اللهم إنك قد أمرت بالجهاد ، ورغّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوّى به مع رسولك ، وإني أتصدّق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها من مال أو جسد أو عرض " ، وفي الصباح سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( أين المتصدق هذه الليلة ؟ ) ، فلم يقم أحد ، فأعاد النبي - صلى الله عليه وسلم - مرّة أخرى فلم يقم إليه أحد ، فشعر علبة رضي الله عنه أنه المقصود بذلك ، فقام وأخبره الخبر ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : ( أبشر ، فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتبت في الزكاة المتقبلة ) .

واستغلّ المنافقون هذه المواقف المشرّفة للسخرية من صدقات الفقراء ، والتعريض بنوايا الأغنياء ، وقد كشف القرآن عن خباياهم فقال سبحانه : { الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات ، والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر اللّه منهم ولهم عذاب أليم } ( التوبة : 79 ) .

كما حاولوا أن يصدّوا الناس عن الخروج ، بالترهيب من لقاء العدوّ تارةً ، والترغيب في الجلوس والإخلاد إلى الراحة تارةً أخرى ، خصوصاً أن الغزوة كانت في وقت شدّة الحرّ وطيب الثمر .

ولم يتوقّف كيد المنافقين عند هذا الحدّ ، بل قاموا ببناء مسجد في أطراف المدينة ليكون مقرّاً لهم ، يدّبرون فيه المؤامرات للقضاء على الإسلام وأهله ، وطلبوا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلّي فيه كنوعٍ من التمويه والخداع ، لكنّ الله بيّن لنبيّه حقيقة نواياهم ، ونهاه عن الصلاة في مسجدهم .

واجتمع مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثون ألف مقاتل من المهاجرين والأنصار وغيرهم من أبناء القبائل العربيّة ، ودفع باللواء إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وقام بتقسيم الجيش إلى عددٍ من الألوية ، وعيّن على كلٍ منها قائداً ، ثم استخلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه ليقوم برعاية أهله , فشقّ عليه أن تفوته هذه الغزوة ، فذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأذنه في الخروج ، فقال له عليه الصلاة والسلام: ( أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ ، غير أنه لا نبي بعدي ) رواه البخاري .

وجاء الفقراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يطلبون منه أن يعينهم بحملهم إلى الجهاد ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يعتذر بأنّه لا يجد ما يحملهم عليه من الدوابّ ، فانصرفوا وقد فاضت أعينهم أسفاً على ما فاتهم من شرف الجهاد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فخلّد الله ذكرهم إلى يوم القيامة ، وأنزل فيهم قوله: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم ، ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون } ( التوبة : 91 – 92 ) ، وكانت رغبتهم الصادقة في الخروج سبباً لأن يكتب الله لهم الأجر كاملاً ، فقد جاء في صحيح البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ( إن بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ؛ حبسهم العذر ) .

أما المنافقون فقد تخلّف معظمهم عن الغزو ، وقاموا بادّعاء الأعذار الكاذبة ، فمنهم من اعتذر بعدم القدرة على السفر ، ومنهم من اعتذر بقلّة المتاع ،ومنهم من اعتذر بشدّة الحرّ ، ومنهم من اعتذر بإعجابه بالنساء ، وخوف الفتنة بنساء الروم ، فقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - أعذارهم ، وأنزل الله آياتٍ في سورة التوبة تفضح أمرهم ، وتكشف حقيقة كذبهم ، وتنذرهم بالعذاب الأليم .

وانطلق الجيش بقيادة النبي - صلى الله عليه وسلم - نحو الشمال ، وفي الطريق مرّوا على ديار ثمود ، فسارع بعض المسلمين ليروا مساكنهم ، ويقفوا على آثارهم ، وبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعا الناس ثم قال لهم : ( لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، إلا أن تكونوا باكين ؛ حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ) ، ثم أمرهم بالإسراع في الخروج ، فأخبره الصحابة أن بعضهم قد تزوّدوا بالماء للشرب وصنع العجين ، فأمرهم بإراقة ذلك الماء ، وإطعام العجين للدواب ، إلا أنه استثنى ما أخذوه من بئر ناقة صالح عليه السلام .

وبدأت المعاناة بسبب نقص المياه ، وشدّة الحرارة ، وقلّة الرواحل ، حتى إن البعير الواحد كان يتناوب عليه الجماعة من الرجال ، واضطرّ بعضهم إلى أكل أوراق الشجر ونحر الإبل ليشربوا ما في بطونها ، وبعد أن بلغ بهم الجهد مبلغاً عظيماً شكوا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فدعا ربّه بنزول المطر ، ولم يكد ينتهي من دعائه حتى أمطرت السماء وارتوى الناس ، وكانت هذه المعجزة تثبيتاً للمؤمنين وتخفيفاً لمعاناتهم .

وكان أبو ذرّ الغفاري رضي الله عنه قد تأخّر عن الجيش ، فبحث عن راحلةٍ تمكّنه من اللحاق بهم ، فلم يجد سوى راحلةٍ هزيلة ، فلما أبطأت به وخشي أن يتأخّر ، أخذ متاعه وحمله على ظهره ، ومشى على قدميه حتى اقترب من الجيش ، فرآه أحد الصحابة فقال : " يا رسول الله ، هذا رجلٌ يمشي على الطريق " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ( كن أبا ذر ) ، فلمّا تأمّله القوم قالوا : " يا رسول الله ، هو والله أبو ذرّ " ، فقال عليه الصلاة والسلام: ( رحم الله أبا ذر ، يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويُبعث وحده ) رواه الحاكم .

وكان ممن تخلف عن الغزو في أوّل الأمر ، أبو خيثمة الأنصاري رضي الله عنه ، حيث لم يستطع أن يحمل نفسه على الخروج ، وفي يومٍ من الأيام دخل بستاناً له ، ورأى زوجتيه وهما يعدّان له المكان الظليل والماء البارد ، فاستيقظ ضميره ، وعاتب نفسه ، كيف يجلس في الظلّ والنعيم ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعاني شدّة الحرّ ومشقّة الطريق ؟ ، فندم وأخذ سلاحه وركب دابّته، حتى أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك ، وذهب إليه معتذراً , فعاتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما كان منه ، ثم عفا عنه ودعا له بخيرٍ .

وعندما وصل الجيش إلى تبوك ، لم يجدوا أثراً للروم أو القبائل الموالية ، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - سريّةً بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه إلى دومة الجندل ، وغنموا عدداً كبيراً من المتاع والأنعام ، واستطاعوا أن يأسروا ملكها " أكيدر بن كندة " ، وأتوا به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فصالحه على دفع الجزية ، ثم أطلق سراحه .

ومكث النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبوك عشرين يوماً ، يستقبل الوفود التي جاءت للمصالحة ودفع الجزية من أهل " جرباء وأذرح "وغيرهما ، وكان منهم وفد ملك " أيلة " الذي بعث بهديّةٍ من كساء وبغلة بيضاء ، فقبلها النبي - صلى الله عليه وسلم - .

وبعد أن تحقّق المقصود من الغزو ، عاد الجيش الإسلاميّ إلى المدينة ، فلما اقترب منها خرجت جموع النساء والأطفال لاستقبال النبي - صلى الله عليه وسلم - والاطمئنان على سلامته ، ثم توجّه النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مسجده وصلّى فيه ركعتين ، ثم جلس مع الناس ، وجاءه المنافقون يعتذرون إليه ، فقبل أعذارهم وأوكل سرائرهم إلى الله ، وحضر إليه الثلاثة الذين خُلّفوا عن المعركة فلم يقبل أعذارهم ، ونهى الناس عن مخالطتهم والكلام معهم ، حتى أنزل الله توبتهم .

هذه هي أحداث آخر غزوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، استطاع من خلالها إسقاط هيبة الروم ، وتوطيد سلطان الإسلام في الجزيرة ، وإيصال رسالة إلى قبائل العرب بمقدار القوّة التي بلغها المسلمون ، الأمر الذي كان له أعظم الأثر في استجابتهم لدعوة الحق وقبولهم للإسلام بعد ذلك .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة