الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

نبع الماء .. وانشقاق القمر

نبع الماء .. وانشقاق القمر

نبع الماء .. وانشقاق القمر

المتأمل لسيرة الحبيب ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووقائع حياته يجد أن الله ـ عز وجل ـ أجرى معجزات كثيرة على يديه، لا مناص من قبولها، ولا مجال لردها، لأنها نُقِلت إلينا بالأسانيد الصحيحة الثابتة، وبتأمل وتدبر يسير يتضح لنا بجلاء ووضوح، أن الله ـ عز وجل ـ الذي خلق هذا الكون الكبير المليء بالمعجزات والآيات، ليس عسيرا عليه أن يزيد فيه معجزة أخرى، أو أن يغير أو يبدل في بعض أنظمته التي أنشأ الكون عليها، لأمر تقتضيه حكمته ـ سبحانه ـ ..

وقد كان لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المعجزات الكثير والكثير، التي أكرمه الله بها، تأييدا لدينه ودعوته، وتصديقا لنبوته ورسالته، وبيانا لعلو شأنه ومنزلته .. ومن ذلك معجزة نبع الماء من بين أصابعه الشريفة، وانشقاق القمر على عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

انشقاق القمر
من الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ انشقاق القمر في مكة المكرمة قبل الهجرة، وهي معجزة تواترت الأخبار بنقلها، فقد سأل المشركون بمكة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ آية، فأراهم القمر ينشق إلى شقين، غير أن قلوبهم المريضة لم تؤمن رغم عظم هذه المعجزة . وقد أنكرها البعض، وهو جهل منهم بقدرة الله ـ عز وجل ـ في هذا الكون، ومطلق تصرفه في مخلوقاته ..

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: " قال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن: " أنكر بعض المبتدعة الموافقين لمخالفي الملة انشقاق القمر، ولا إنكار للعقل فيه، لأن القمر مخلوق لله يفعل فيه ما يشاء، كما يكوره يوم البعث ويفنيه .." .

ولم ينشق القمر لأحد غير نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يقول الإمام الخطابي الخطابي : " انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء .." . وهي معجزة ثابتة بنص القرآن الكريم، وبالأحاديث الصحيحة عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

أما القرآن الكريم فقول الله تعالى:{ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ }(القمر 3:1 ) ..

وأما الأحاديث فقد صحت عند البخاري ومسلم وغيرهما، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال: ( انشق القمر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ شقتين، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اشهدوا ) ( البخاري ).

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ: ( أن أهل مكة سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يريهم آية، فأراهم انشقاق القمر )( البخاري ) .

وعن جبير بن مطعم ـ رضي الله عنه ـ قال: ( انشق القمر على عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى صار فرقتين على هذا الجبل وعلى هذا الجبل، فقالوا: سحرنا محمد، فقال بعضهم: لئن كان سحرنا فما يستطيع أن يسحر الناس كلهم .. )( الترمذي ) .

وقد أراد بعض المشركين التشكيك في هذه المعجزة، بزعمهم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ سحر أعينهم، فرد عليهم البعض بسؤال المسافرين إذا كانوا رأوا هذه الحادثة أم لا ..

فذكر البيهقي في دلائل النبوة: " .. انشق القمر على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقالت كفار قريش: هذا سحر، سحركم ابن أبي كبشة، فانظروا إلى السفار(القوافل التجارية العائدة إلى مكة)، فإن أخبروكم أنهم رأوا مثل ما رأيتم فقد صدق، قال: فما قدم عليهم أحد إلا أخبرهم بذلك " .

قال القاضي عياض : " .. أما انشقاق القمر فالقرآن نص بوقوعه، و أخبر عن و جوده، ولا يعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله صحيح الأخبار من طرق كثيرة، ولا يوهن عزمنا خِلافُ أخْرقٍ منحل عرى الدين، ولا يلتفت إلى سخافة مبتدع يلقي الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين، بل نرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سخفه ..".

فمعجزة انشقاق القمر من أعظم معجزات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد القرآن الكريم، وهي أعظم من معجزة شق البحر لموسى ـ عليه السلام ـ، لأن البحر في الأرض، أما القمر في السماء والبرهان فيه أظهر ..
نبع الماء
قال القرطبي : " قصة نبع الماء من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ تكررت في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة، يفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يسمع بمثل هذه المعجزة عن غير نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ، حيث نبع الماء من بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه .." ..

ومن هذه المواطن التي حدث بها تكثير الماء ونبعه من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

ما رواه البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين يديه رِكْوة(إناء صغير من جلد يشرب فيه )، فتوضأ منها، فجهش(فزع) الناس نحوه، فقال: ما لكم؟، قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ما نتوضأ به ولا نشرب إلا ما بين يديك، قال: فوضع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده في الركوة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا . فقلت لجابر : كم كنتم يومئذ؟، قال: لو كنا مائة ألفٍ لكفانا، كنا خمس عشرة مائة ) ..

وعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: ( رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحانت صلاة العصر، فالتمس الناس الوضوء فلم يجدوه، فأُتِيَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِوَضوء، فوضع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يده في ذلك الإناء وأمر الناس أن يتوضؤوا منه، قال: فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم )( البخاري ) ..

ومن الشواهد والأحداث القصة الطويلة ـ في غزوة ذات الرقاع ـ التي رواها الإمام مسلم في صحيحه والتي جاء فيها أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال لجابر بن عبد الله ـ رضي الله عنهما ـ: ( .. يا جابر ناد بوضوء . فقلت: ألا وَضُوء؟ ألا وضوء؟، ألا وضوء؟، قال قلت: يا رسول الله ما وجدت في الرَّكْب من قطرة، وكان رجل من الأنصار يبرد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الماء في أشجاب له على حمارة من جريد(أعواد تعلق عليها أسقية الماء)، قال: فقال لي: انطلق إلى فلان بن فلان الأنصاري، فانظر هل في أشجابه(سقائه)من شىء؟، قال: فانطلقت إليه فنظرت فيها فلم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها(فم قربة قديم)، لو أنى أفرغه لشربه يابسه . فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ فقلت: يا رسول الله إني لم أجد فيها إلا قطرة في عزلاء شجب منها، لو أنى أفرغه لشربه يابسه، قال: اذهب فأتنى به . فأتيته به فأخذه بيده فجعل يتكلم بشيء لا أدرى ما هو، ويغمزه بيديه، ثم أعطانيه، فقال: يا جابر ناد بجفنة(قصعة) . فقلت: يا جفنة الركب. فأتيت بها تُحمل، فوضعتها بين يديه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده فى الجفنة هكذا، فبسطها وفرق بين أصابعه، ثم وضعها في قعر الجفنة، وقال: خذ يا جابر فصب علىَّ وقل باسم الله . فصببت عليه وقلت باسم الله، فرأيت الماء يفور من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم فارت الجفنة ودارت حتى امتلأت، فقال: يا جابر ناد من كان له حاجة بماء . قال: فأتى الناس فاستقوا حتى رووا .. قال: فقلت: هل بقى أحد له حاجة، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده من الجفنة وهى ملأى. .. )

وعن قتادة قال: ( حدثنا أنس بن مالك أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه بالزوراء ـ موضع بالمدينة ـ دعا بقدح فيه ماء، فوضع كفه فيه فجعل ينبع من بين أصابعه فتوضأ جميع أصحابه . قال: قلت: كم كانوا يا أبا حمزة؟، قال: كانوا زُهاء الثلاثمائة ) ( مسلم ).


ونقل ابن عبد البر عن المزني أنه قال: " نبع الماء من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبلغ في المعجزة من نبع الماء من الحجر حيث ضربه موسى ـ عليه السلام ـ بالعصا فتفجرت منه المياه، لأن خروج الماء من الحجارة معهود، بخلاف خروج الماء من بين اللحم والدم " .

إن انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وشكوى البعير له، وشهادة الذئب بنبوته، وانقياد الشجر إليه، وتسليم الحجر عليه وغير ذلك .. معجزات ظاهرة، وآيات باهرة من الله ـ عز وجل ـ لنبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وليس في قدرة البشر أن يأتوا بمثلها، إذ لم تجر سنة الله في الكون أن يحدث ذلك لإنسان مهما كان، إلا أن تكون آية من الله تدل على صدق نبوته، وعلو منزلته، وشرف مكانته، وقد كان ذلك كله وأكثر، تكريما وتشريفا وتأييدا للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة