الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وقفة مع إسلام عكرمة بن أبي جهل

وقفة مع إسلام عكرمة بن أبي جهل

 وقفة مع إسلام عكرمة بن أبي جهل

كان عكرمة من أشد الناس عداوة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقد شرب هذه العداوة من أبيه ـ فرعون هذه الأمة ـ ، مما جعل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في فتح مكة يعفو ويؤمّن الناس جميعا إلا أربعة ، بل ويأمر بقتلهم وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة ..

فعن مصعب بن سعد عن أبيه ـ رضي الله عنهما ـ قال : " لما كان يوم فتح مكة أمَّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس إلا أربعة نفر وامرأتين، وسماهم .." ، وكان منهم عكرمة بن أبي جهل .. فهرب وذهب إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق بها إلى اليمن ، إلا أن الله ـ عز وجل ـ شاء له الهداية فأسلم ..
يقول سعد : " .. وأما عكرمة فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة : أخلصوا فان آلهتكم لا تغني عنكم شيئا هاهنا ، فقال عكرمة : لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ، ما ينجيني في البر غيره ، اللهم إن لك عليَّ عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه آتي محمدا فأضع يدي في يده ، فلأجدنه عفوا كريما ، قال : فجاء فأسلم .."(أبو داود)..

ويروي عبد الله بن الزبير قصة إسلام عكرمة ـ كما ذكر الواقدي والسيوطي ـ فيقول :

" .. قالت أم حكيم امرأة عكرمة بن أبي جهل : يا رسول الله ، قد هرب عكرمة منك إلى اليمن ، وخاف أن تقتله فأمنه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( هو آمن ) ..
فخرجت أم حكيم في طلبه ومعها غلام لها رومي ، فراودها عن نفسها ، فجعلت تمنيه حتى قدمت على حي من عك ، فاستغاثتهم عليه فأوثقوه رباطا .. وأدركت عكرمة وقد انتهى إلى ساحل من سواحل تهامة فركب البحر ، فجعل نوتي(ملاح) السفينة يقول له : أخلص! فقال : أي شيء أقول ؟ ، قال: قل لا إله إلا الله ، قال عكرمة : ما هربت إلا من هذا .. فجاءت أم حكيم على هذا الكلام ، فجعلت تلح عليه وتقول : يا ابن عم ، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس ، لا تهلك نفسك .. فوقف لها حتى أدركته فقالت : إني قد استأمنت لك محمدا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال: أنت فعلت ؟ ، قالت: نعم ، أنا كلمته فأمنك فرجع معها ، وقال : ما لقيت من غلامك الرومي ؟ ، فخبرته خبره فقتله عكرمة ، وهو يومئذ لم يسلم .. " ..

ويكمل عبد الله بن الزبير القصة فيقول : " .. وجعل عكرمة يطلب امرأته يجامعها ، فتأبى عليه وتقول : إنك كافر وأنا مسلمة ، فيقول : إن أمرا منعك مني لأمر كبير ..
فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - عكرمة وثب إليه ، وما على النبي - صلى الله عليه وسلم ـ رداء ، فرحا بعكرمة .. ثم جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوقف بين يديه ، وزوجته منتقبة ، فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( صدقت ، فأنت آمن ) ، فقال عكرمة : فإلى ما تدعو يا محمد ؟ ، قال : ( أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتفعل ، وتفعل ـ ، حتى عَدَّ خصال الإسلام.. ) ، فقال عكرمة : والله ما دعوتَ إلا إلى الحق وأمرٍ حسن جميل ، قد كنتَ والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا ..

ثم قال عكرمة : فإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله .. فسُرَّ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال : يا رسول الله علمني خير شيء أقوله ، قال : ( تقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد عبده ورسوله ) ، قال عكرمة : ثم ماذا ؟ ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( تقول أُشْهِد الله وأشهد من حضر أني مسلم مهاجر ومجاهد ) ، فقال عكرمة ذلك ..
فقال رسول الله : ( لا تسألني اليوم شيئا أعطيه أحدا إلا أعطيتكه ) ، فقال عكرمة : فإني أسألك أن تستغفر لي كل عداوة عاديتكها ، أو مسير وضعت فيه ، أو مقام لقيتك فيه ، أو كلام قلته في وجهك أو وأنت غائب عنه ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :( اللهم اغفر له كل عداوة عادانيها ، وكل مسير سار فيه إلى موضع يريد بذلك المسير إطفاء نورك ، فاغفر له ما نال مني من عرض في وجهي أو أنا غائب عنه ) ..
فقال عكرمة : رضيت يا رسول الله ، لا أدع نفقة كنت أنفقها في صدٍ عن سبيل الله إلا أنفقتُ ضعفها في سبيل الله ، ولا قتالا كنت أقاتل في صد عن سبيل الله إلا أبليت ضعفه في سبيل الله .. ثم اجتهد في القتال حتى قتِل شهيدا (أي في يوم اليرموك) .. وبعد أن أسلم رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - امرأته له بذلك النكاح الأول .." .

وفي قصة إسلام عكرمة ـ رضي الله عنه ـ بيان لحكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسمو خلقه ، ورحمته وسماحته ..
فرغم أن عكرمة كان أحد الذين عادوا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل ذلك وآذوه إيذاء شديدا ، فقد كان لعفوه وسماحته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكلماته وترحيبه في استقباله ، ومعانقته عند قدومه ، الأثر الكبير في إزالة ما على قلبه من ركام الجاهلية ، وكان كافيا لتغيير حياته ، واجتذابه إلى الإسلام ..
ومن ثم تأثر عكرمة ـ رضي الله عنه ـ بموقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاهتزت مشاعره ، وتحركت أحاسيسه ، ودخل نور الهداية قلبه فأسلم ، وقال للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " .. قد كنت والله فينا قبل أن تدعو إلى ما دعوت إليه وأنت أصدقنا حديثا وأبرنا برا .. " ..
فأي حكمة وأخلاق كريمة كانت عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ !! ، وصدق الله ـ تعالى ـ حيث يقول عن نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }(القلم:4)، ويقول : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ }(الأنبياء:107) ..

وكذلك في إسلام عكرمة ـ رضي الله عنه ـ تتجلى لنا صورة من صُوَر عِفَّة المرأة المسلمة ـ أم حكيم - رضي الله عنها -، فقد دعاها عكرمة ـ زوجها ـ إلى الجماع ولكنها رفضت ، وأبت عليه ذلك مُبَرِّرة رفضَها قائلة : " إنك كافر، وأنا مسلمة " .. فهي ما سعت وراءه لرغبات نفسها ، بل لَحِقَت به لتريه طريقَ الإسلام ، ولتهديه - بإذن الله - سواء السبيل ..
فما كان من عكرمة إلاَّ أنْ قال : " إنَّ أمرًا منعكِ مني لأمرٌ كبير " ..
وهكذا نجحت أم حكيم ـ رضي الله عنها ـ في زرع البذرة الطيبة في نفس زوجها ، وعادت به إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليعلن إسلامه بين يديه ، بعد أن كاد يضيع في ظلمات الشرك والوثنية ..

لقد تغير عكرمة ـ رضي الله عنه ـ بعد إسلامه تغيرًا كاملاً .. وهكذا الإسلام يصنع الرجال والنساء على نَهْجه ، بصورة مختلفة تمام الاختلاف عن حياتهم قبل الإسلام ..

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة