الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

(الفاءات) في القرآن الكريم

(الفاءات) في القرآن الكريم

(الفاءات) في القرآن الكريم

ثمة مقولة تقول: إن من تأمل (الفاءات) في القرآن رأى عجباً، فما حقيقة (الفاءات) في القرآن الكريم؟ وهل حقاً تثير العجب؟ هذا ما نحاول أن نسلط عليه الضوء في السطور التالية، منطلقين بداية مما يذكره النحاة بخصوص حرف (الفاء).

يذكر أهل النحو أن أصول أقسام (الفاء) ثلاثة: الفاء العاطفة، والفاء الجوابية، والفاء الزائدة.

أما الفاء العاطفة فمعناها التعقيب، وتفيد الترتيب، تقول: قام زيد فعمرو، فدلت (الفاء) على أن قيام عمرو بعد زيد، بلا مهلة.

وقال بعض النحويين: الترتيب بـ (الفاء) على ضربين: ترتيب معنوي، وترتيب لفظي. والمراد بالترتيب المعنوي أن يكون المعطوف بها لاحقاً متصلاً، بلا مهلة. كقوله تعالى: {الذي خلقك فسواك فعدلك} (الانفطار:7). والمراد بالترتيب اللفظي هو عطف مفصل على مجمل، كقوله تعالى: {ونادى نوح ربه فقال} (هود:45).

والمعطوف بـ (الفاء) إما أن يكون مفرداً، أو جملة، والمفرد: إما أن يكون صفة، أو غير صفة. فإن عطفت مفرداً غير صفة، لم تدل على السببية. نحو: قام زيد فعمرو. وإن عطفت جملة، أو صفة، دلت على السببية غالباً. نحو قوله سبحانه: {فوكزه موسى فقضى عليه} (القصص:15).

وأما الفاء الجوابية: فمعناها الربط؛ لأنها تربط بين فعل الشرط وجوابه، وتلازمها السببية. وتكون جواباً لأمرين: أحدهما: الشرط بـ (إن) وأخوتها. نحو قوله سبحانه: {ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما} (طه:112). والثاني: ما فيه معنى الشرط، نحو (أما). ومثاله قوله تعالى: {وأما السائل فلا تنهر} (الضحى:10).

فأما الفاء الزائدة فهي ضربان: أحدهما: الفاء الداخلة على خبر المبتدأ، إذا تضمن معنى الشرط. نحو: الذي يأتي فله درهم. والثاني: التي دخولها في الكلام كخروجها. وقد أنشد النحويون على زيادة (الفاء) قولَ الشاعر:

يموت أناس أو يشيب فتاهم ويحدث ناس والصغير فيكبر

يريد: يكبر. ومعنى زيادتها: أنها غير عاملة، وأن الكلام يستغني عنها، ولا ينقص معناه بحذفها، وتزاد لإفادة التوكيد وتقوية الكلام. وثمَّ خلاف بين النحويين في اعتبار هذا القسم.

قال النحاة: وقد ذُكر لـ (الفاء) أقسام أُخر، ترجع عند التحقيق إلى الأقسام الثلاثة المتقدمة.

والمفسرون ذكروا أقساماً من (الفاءات) وردت في القرآن الكريم، لا تخرج في الجملة على ما ذكره النحويون، نذكرها تالياً، ونمثل لها:

أولاً: الفاء العاطفة: أصل (الفاء) العاطفة أن تفيد ترتيب حصول معطوفها بعد حصول المعطوف عليه. وقد تسمى فاء التعقيب. وهي كما تقدم تعطف المفرد والجملة. ومثالها في عطف المفرد، قول الباري سبحانه: {فالموريات قدحا * فالمغيرات صبحا * فأثرن به نقعا} (العاديات:2-4)، عُطفت هذه الأوصاف الثلاثة الأولى بـ (الفاء)، لأن أسلوب العرب في عطف الصفات أن يكون بـ (الفاء) وهي للتعقيب، والأكثر أن تكون لتعقيب الحصول. ومثالها في عطف الجُمل قوله عز وجل: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فكفارته إطعام عشرة مساكين} (المائدة:89)، (الفاء) هنا للتعقيب. وقوله تعالى: {ولا يؤذن لهم فيعتذرون} (المرسلات:36)، عطفت (الفاء) الفعل (يعتذرون) على الفعل {يؤذن}. وقوله سبحانه: {فلما أضاءت ما حوله} (البقرة:17)، فـ (الفاء) في {فلما} للتعقيب، وهي عاطفة جملة الشرط على جملة الصلة. ونظيرها قوله عز وجل: {وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض} (البقرة:164)، عَطْفٌ على صلة (ما)، الذي هو {أنزل} بـ (الفاء) المقتضية للتعقيب، وسرعة النبات. ومن ذلك أيضاً، قوله عز وجل: {فأخذتهم الرجفة} (الأعراف:78) فـ (الفاء) في {فأخذتهم} عاطفة تفيد التعقيب، والفعل عَطْفٌ على قولهم: {ائتنا بما تعدنا} على تقدير قرب زمان الهلاك من زمان طلب الإتيان بالوعد؛ ولقرب ذلك كان العطف بـ (الفاء).

ثانياً: الفاء الجوابية: هي التي تأتي في جواب الشرط، وتقترن بجملة اسمية أو فعلية؛ فمثال اقترانها بالجملة الاسمية، قوله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} (الأنعام:160). وأيضاً قوله سبحانه: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} (النساء:124). ومثال اقترانها بالجملة الفعلية قوله تعالى: {ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار} (النمل:90)، وأيضاً قوله تعالى: {ومن عاد فينتقم الله منه} (المائدة:95). وأمثلة (الفاء) الجوابية كثيرة في القرآن، لا تخفى على من تأملها.

ثالثاً: الفاء السببية: مثالها قوله عز وجل: {فتوبوا إلى بارئكم} (البقرة:54)، (الفاء) سببية هنا؛ لأن الظلم سبب التوبة. ومن أمثلتها أيضاً، قوله سبحانه: {فذلك الذي يدع اليتيم} (الماعون:2)، (الفاء) في الآية للسببية، أي: لما كان كافراً مكذباً، كان كفره سبباً لقهر اليتيم، وظلمه حقه، وترك إطعامه، والإحسان إليه. ونظير ما تقدم، قوله عز وجل: {أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم} (البقرة:87)، (الفاء) هنا للسببية. ومثل ذلك كذلك، قوله تعالى: {ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون} (البقرة:87)، فـ (الفاء) للسببية؛ فإنهم لما استكبروا، بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقاً، أي: صرحوا بتكذيبهم، أو عاملوهم معاملة الكاذب، وقتلوا فريقاً. ومنها أيضاً، قوله تعالى: {فما يكون لك أن تتكبر فيها} (الأعراف:13)، (الفاء) للسببية؛ تعليلاً للأمر بالهبوط، وهو عقوبة خاصه عقوبةَ إبعاد عن المكان المقدس. ومن أمثلة هذه (الفاء) غير ما تقدم، قوله تعالى: {فأنساه الشيطان}، فـ (الفاء) للسببية؛ فإن توصيته عليه السلام المتضمنة للاستعانة بغيره سبحانه، كانت باعثة لما ذُكر من إنسائه.

رابعاً: الفاء الزائدة: وهي التي لا يختل النَّظْمُ بسقوطها، وعادة تذكر للتوكيد. مثالها قوله سبحانه: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} (البقرة:185)، (الفاء) في {فمن} زائدة، قال بعض النحاة: (الفاء) قد تدخل للعطف، أو للجزاء، أو تكون زائدة، وليس للعطف والجزاء ههنا وجه. ومثال هذه (الفاء) أيضاً، قوله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت} (قريش:3)، قال القرطبي: عمل ما بعد الفاء فيما قبلها؛ لأنها زائدة غير عاطفة. ومن أمثلتها كذلك، قوله عز وجل: {فلا تخشوهم واخشوني} (البقرة:150)، (الفاء) زائدة للتأكيد. ومن هذا القبيل، قوله سبحانه: {فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب} (آل عمران:188)، (الفاء) هنا زائدة.

خامساً: الفاء الفصيحة: ويسميها بعض المفسرين (الفاء) التفسيرية. ومعنى فاء الفصيحة: أنها الفاء العاطفة، إذا لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفاً على المذكور قبلها، فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما، يكون ما بعد الفاء معطوفاً عليه. وتسميتها بالفصيحة؛ لأنها أفصحت عن محذوف. مثالها قوله عز وجل: {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} (البقرة:60)، قالوا: (الفاء) في الآية هي فاء الفصيحة، والتقدير في مثل هذا: فضرب، {فانفجرت}. ومن أمثلتها أيضاً، قوله عز وجل: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم} (البقرة:85)، (الفاء) فصيحة عاطفة على محذوف، دل عليه الاستفهام الإنكاري. وبهذا تعلم أن (الفاء) الفصيحة ترجع في خاتمة المطاف إلى قسم (الفاء) العاطفة.

ومن المفيد القول هنا: إن المفسرين قد تختلف أنظارهم في تعيين المراد بـ (الفاء) في هذه الآية، أو تلك، هل هي عاطفة، أو جوابية، أو سببية، أو زائدة؟ ولا غرابة في ذلك؛ إذ إن السياق الذي ترد فيه (الفاءات)، يحتمل هذا النوع من الاختلاف، ولا يمكن القطع دائماً بمعنى معين من المعاني التي تفيدها (الفاء).

ومن الأمثلة على هذا الاختلاف في تعيين (الفاء)، قول الآلوسي عند تفسيره لقوله تعالى: {فتوبوا إلى بارئكم} (البقرة:54)، قال: الفاء للسببية؛ لأن الظلم سبب للتوبة، وقد عطفت ما بعدها على {إنكم ظلمتم أنفسكم}، وتشعر عبارات بعض الناس أنها للسببية دون العطف، والتحقيق أنها لهما معاً.

ويرشد لهذا أيضاً ما ذكره ابن عاشور عند تفسيره لقوله سبحانه: {فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين} (الزخرف:55)، قال: إما أن تجعل الفاء زائدة، لتأكيد تسبب {آسفونا} في الإغراق، وأصل التركيب: انتقمنا منهم فأغرقناهم، على أن جملة {فأغرقناهم} مبينة لجملة {انتقمنا منهم}، فزيدت الفاء لتأكيد معنى التبيين، وإما أن تجعل الفاء عاطفة جملة {انتقمنا} على جملة {فاستخف قومه} (الزخرف:54)، {فأغرقناهم}.

ومن هذا القبيل أيضاً، قوله عز وجل: {وربك فكبر} (المدثر:3)، قال الرازي: {فكبر}، ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن الفاء زائدة. ثانيها: دخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية، والمعنى: قم فكبر ربك. ثالثها: أن الفاء لإفادة معنى الشرط، والتقدير: وأي شيء كان، فلا تدع تكبيره.

ومن ذلك أيضاً، قوله تعالى: {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم} (الجاثية:31)، قال أبو حيان: وفاء {أفلم} تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون زائدة. والوجه الثاني: أن تكون تفسيرية.

ونظير ما تقدم قوله سبحانه: {فيقسمان بالله إن ارتبتم} (المائدة:106)، قال القرطبي: الفاء في {فيقسمان} عاطفة جملة على جملة، أو جواب جزاء؛ لأن {تحبسونهما} معناه: احبسوهما، أي: لليمين؛ فهو جواب الأمر الذي دل عليه الكلام، كأنه قال: إذا حبستموهما، أقسما. ومثل هذا الاختلاف في تعيين المراد بـ (الفاء) كثير في أقوال المفسرين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة