الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إن كيد الشيطان كان ضعيفا

إن كيد الشيطان كان ضعيفا

إن كيد الشيطان كان ضعيفا

وصف القرآن الكريم كيد الشيطان بالضعف، فقال تعالى: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} (النساء:76). والآية تفيد أن هذا (الكيد) الذي وُصف به الشيطان، إنما كان في الزمن الماضي، وقد يُفهم منها أن كيده بعدُ لم يعد ضعيفاً؛ بدلالة ما يوسوس به لكثير من أتباعه وأشياعه. فما هو المراد من هذا التعبير، وما دلالة الفعل (كان) هنا؟ هذا ما نتناوله في هذه السطور.

إن المتأمل في القرآن الكريم، يجد أن الفعل (كان) ورد على معان خمسة، هي:

الأول: على معنى حصول ما دخل عليه الفعل (كان) في الزمن الماضي، ثم انقطاعه، وهذا هو الأصل في هذا الفعل، أن يدل على حدث وقع في الماضي وانتهى. والمثال على هذا المعنى قوله تعالى: {وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون} (النمل:48)، فالفعل (كان) هنا، يدل على حدوث فعل (الإفساد) من أولئك الرهط، ثم انقضائه وانقطاعه، بمعنى أن (كان) هنا تخبر عن حدث مضى وانقضى.

الثاني: ورد الفعل (كان) دالاً على الدوام، واستمرار مضمون خبره في جميع الأزمنة، ولا يجوز أن يُجعل مما حصل مضمون خبره في الماضي ثم انقطع. وأكثر ما يكون هذا المعنى في (كان) الداخلة على صفات الله تعالى وأسمائه؛ لأن صفاته وأسمائه مستمرة غير منقطعة، كقوله تعالى: {وكان الله عليما حكيما} (النساء:17)، وقوله: {وكان الله سميعا بصيرا} (النساء:134)، فـ (كان) في هذه الآيات، وما شاكلها بمعنى (ما زال).

وقد وردت (كان) الدالة على الدوام والاستمرار في غير صفات الله، من ذلك قوله سبحانه: {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا} (الإنسان:22)، فـ (كان) في الآية تفيد الدوام والاستمرار، بمعنى أن سعي الإنسان في الخير أبداً ودوماً مأجور عليه.

الثالث: ورد الفعل (كان) بمعنى (صار)، وهو من أفعال التحول، وهي أفعال تفيد التحول من شيء إلى شيء، من ذلك قوله سبحانه: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} (البقرة:34). أي: صار إبليس من الكافرين، ولم يكن قبل السجود منهم. ونحو هذا قوله تعالى: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} (البقرة:143).

الرابع: ورد الفعل (كان) دالاً على الزمن الحاضر، كقوله سبحانه: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} (النساء:103)، بمعنى أن الصلاة واجبة على المؤمن ضمن وقتها الشرعي المحدد.

الخامس: ورد الفعل (كان) دالاً على الزمن المستقبل، كقوله سبحانه: {إن العهد كان مسئولا} (الإسراء:34)، بمعنى أن الإنسان سوف يُسأل ويحاسب عما يبرمه من عهود مع الآخرين. ونحو ذلك قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} (الإسراء:36).

فإذا عدنا إلى قوله تعالى: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا}، وجدنا أن الفعل (كان) دال على الدوام؛ فـ {كيد الشيطان} ضعيف في كل زمان، ولا يستقيم أن تكون (كان) هنا على معناها الأصلي الزمن الماضي؛ إذ يكون المعنى حينئذ: كان كيد الشيطان ضعيفاً فيما مضى من الزمن، أما الآن فهو قوي شديد!

ويمكن أن تُحمل (كان) هنا على معنى (صار)، فيكون المعنى كما نقل أبو حيان عن بعضهم: صار كيد الشيطان ضعيفاً بعد الإسلام.

وبهذا تعلم أنه لا يصح حمل الآية -كما ذهب بعض الضالين- على معنى أن {كيد الشيطان كان ضعيفا} فيما مضى، ثم قوي بعد ذلك، فمثل هذا القول لا يصح الاعتقاد به، وبالتالي يتعين توجيه الآية وفق ما تقدم.

وقد قال الرازي رحمه الله هنا: "إن المراد بأن كيد الشيطان ضعيف، أنه لا يقدر على أن يضر، وإنما يوسوس، ويدعو فقط، فإن اتُّبع لحقت المضرة، وإلا فحاله على ما كان، فهو بمنـزلة فقير يوسوس لغني في دفع ماله إليه، وهو يقدر على الامتناع، فإن دفعه إليه، فليس ذلك لقوة كيد الفقير، لكن لضعف رأي المالك".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة