الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لفظ (قوم) في القرآن الكريم

لفظ (قوم) في القرآن الكريم

لفظ (قوم) في القرآن الكريم

من الألفاظ الكثيرة الورود في القرآن الكريم ما عاد أصله إلى الجذر اللغوي (ق.و.م)، وهذا الجذر -كما ذكر أهل اللغة- يدل على أصلين:

أحدهما: يدل على جماعة ناس، وربما استعير في غيرهم. قالوا: (القوم) وهو جمع امرئ من غير لفظه، ولا يكون ذلك إلا للرجال. والقوم يجمع على أقوام.

والأصل الآخر: يدل على انتصاب أو عزم، يقال: قام قياماً، والقومة المرة الواحدة، إذا انتصب. ويكون (قام) بمعنى العزيمة، كما يقال: قام بهذا الأمر، إذا اعتنقه. ومن الباب: قومت الشيء تقويماً. ويقال: قام يقوم قياماً، فهو قائم، وجمعه: قيام، وأقامه غيره. وأقام بالمكان إقامة. وتقول العرب: فلان قائم بأمر هذه البلدة، يعنى بذلك: المتولي تدبير أمرها. والقيام والقِوام: اسم لما يقوم به الشيء، أي: يثبت، كالعماد والسناد لما يعمد ويسند به، تقول: هذا قِوام الدين والحق، أي: به يقوم. وأما القَوام فالطول الحسن. وقام فلان مقام فلان: إذا ناب عنه. والإقامة في المكان: الثبات. وإقامة الشيء: توفية حقه. والمـُقام -بضم الميم- يقال للمصدر، والمكان، والزمان، والمفعول، لكن الوارد في القرآن هو المصدر، نحو قوله سبحانه: {إنها ساءت مستقرا ومقاما} (الفرقان:66)، والمـُقامة: الإقامة. ويعبر بالإقامة عن الدوام، قال تعالى: {عذاب مقيم} (هود:39). والقيامة: عبارة عن قيام الساعة أصلها ما يكون من الإنسان من القيام دفعة واحدة، أدخل فيها الهاء تنبيهاً على وقوعها دفعة.

وهم يقولون في الأصل الأول: قيام حتم، وفي الأصل الآخر: قيام عزم.

وقال الراغب الأصفهاني: القيام على أنواع: قيام بالشخص، إما بتسخير أو اختيار، وقيام للشيء هو المراعاة للشيء والحفظ له، وقيام هو العزم على الشيء؛ فمن القيام بالتسخير قوله تعالى: {منها قائم وحصيد} (هود:100) الضمير في الآية يعود على (القرى) الوارد في مطلع الآية: {تلك من أنباء القرى}، فبعضها لا يزال قائماً على حاله، وبعضها أهلكها الله بذنوبها، والمراد بالتسخير هنا كون الفعل بتسخيره سبحانه. ومن القيام الذي هو بالاختيار قوله تعالى: {أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما} (الزمر:9). ومن المراعاة للشيء قوله سبحانه: {كونوا قوامين لله شهداء بالقسط} (المائدة:8) أي: مراعين لما أمركم به ونهاكم عنه. ومن القيام الذي هو العزم قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} (المائدة:6)، أي: إذا عزمتم على أداء الصلاة، فتطهروا لها بالوضوء.

والجذر (ق.و.م) مع اشتقاقاته المتعددة ورد في القرآن الكريم في ستة وخمسين وستمائة (656) موضع، جاء في أربعة وتسعين (94) موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (البقرة:43). وورد في اثنين وستين وخمسمائة (562) موضع بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:155)، وأكثر اشتقاق لهذا الجذر ورد في القرآن لفظ (القوم)حيث ورد هذا اللفظ في ستة ومائتي (206) موضع.

وما يهمنا من هذا الجذر اللغوي لفظ (الإقامة) فقد جاء هذا اللفظ في القرآن على ستة معان، هي:

الأول: بمعنى الإتمام، وهذا كثير في القرآن، منه قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} (البقرة:43) أي: أتموها بحقوقها وحدودها. ومثله قوله سبحانه: {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة} (البقرة:3). ولم يأمر تعالى بـ {الصلاة} حيثما أمر، ولا مدح بها حيثما مدح إلا بلفظ (الإقامة)؛ تنبيهاً على أن المقصود منها توفية شرائطها، لا الإتيان بهيئاتها، نحو: {وأقيموا الصلاة} (البقرة:43)، في غير موضع، وقوله سبحانه: {والمقيمين الصلاة} (النساء:162).

الثاني: بمعنى استقبال القبلة، ورد على هذا المعنى قوله عز من قائل: {وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد} (الأعراف:29) أي: استقبلوا القبلة بوجوهكم عند الصلاة.

الثالث: بمعنى الإخلاص في الدين، من ذلك قوله عز من قائل: {وأن أقم وجهك للدين حنيفا} (يونس:105) أي: أخلص عبادتك وطاعتك لله وحده لا شريك له.

الرابع: بمعنى أداء الفرائض التي فرضها الله على عباده في كتبه، جاء على هذا المعنى قوله تبارك وتعالى: {ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم} (المائدة:66) أي: عملوا بها. ومنه أيضاً قوله سبحانه: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل} (المائدة:68) أي: تعملوا بهما، فتأتمرون بما فيهما من الأوامر، وتنتهون عما فيهما من النواهي.

الخامس: بمعنى التسوية والعمارة، جاء بحسب هذا المعنى قوله تعالى في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام: {فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه} (الكهف:77) أي: سواه وعمَّره.

السادس: بمعنى الاستقرار في الوطن: {يوم ظعنكم ويوم إقامتكم} أي: يوم سفركم ويوم استقراركم في أوطانكم.

ثم ها هنا آيات تضمنت هذا الجذر اللغوي، وردت على معان متعددة، نحاول تالياً الوقوف على معانيها، فمن ذلك:

قوله سبحانه: {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم الأوليان} (المائدة:107) أي: ينوبان منابهما، فـ (القيام) بمعنى النيابة، من قام فلان مقام فلان: إذا ناب عنه.

وقوله عز من قائل: {قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما} (الأنعام:161) أي: ديناً ثابتاً مقوماً لأمور معاشهم ومعادهم. وقال الطبري: ومعناه ديناً مستقيماً لا عوج فيه. ومثل هذا قوله جل جلاله: {ذلك الدين القيم} (يوسف:40) أي: الدين المستقيم، الذي لا عوج فيه.

وقوله سبحانه: {ولم يجعل له عوجا قيما} (الكهف:1-2) أي: (قيما) معتدلاً مستقيماً. وقيل: عنى به: أنه قيم على سائر الكتب، يصدقها ويحفظها.

وقوله عز وجل: {وذلك دين القيمة} (البينة:5) يعني بـ {القيمة}: المستقيمة العادلة، والمراد ملة الإسلام ملة مستقيمة عادلة. فـ {القيمة} ها هنا اسم للأمة القائمة بالقسط المشار إليهم بقوله سبحانه: {كنتم خير أمة} (آل عمران:110).

وقوله تعالى: {فيها كتب قيمة} (البينة:3) إشارة إلى ما في القرآن من معاني كتب الله تعالى؛ فإن القرآن مجمع ثمرة كتب الله تعالى المتقدمة. وقد قال الطبري هنا: في الصحف المطهرة كتب من الله، قيمة عادلة مستقيمة، ليس فيها خطأ؛ لأنها من عند الله.

وقوله سبحانه: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} (البقرة:255) أي: القائم الحافظ لكل شيء، والمعطي له ما به قِوامه، وذلك هو المعنى المذكور في قوله عز وجل: {الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} (طه:50)، وفي قوله تبارك وتعالى: {أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} (الرعد:33).

وقوله سبحانه: {وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى} (النساء:142)، فإن هذا من القيام -الذي هو العزم- لا من الإقامة.

وقوله عز وجل: {رب اجعلني مقيم الصلاة} (إبراهيم:40) أي: وفقني لتوفية شرائطها، وقوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة} (التوبة:11) فقد قيل: عني بإقامتها الإقرار بوجوبها، لا بأدائها.

وقوله تعالى: {لا مُقام لكم فارجعوا} (الأحزاب:13)، من قام، أي: لا مستقر لكم، وقد قرئ: {لا مَقام لكم} من: أقام.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة