الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مرتبة (الصدوق) بين التجريح والتعديل

مرتبة (الصدوق) بين التجريح والتعديل

مرتبة (الصدوق) بين التجريح والتعديل

اصطلح علماء الجرح والتعديل على ألفاظ معينة، كانوا يستخدمونها في جرح الرواة أو تعديلهم، وهي ألفاظ كثيرة متعددة، وقد كان لبعض العلماء مصطلحاتهم الخاصة التي يعبرون فيها عن حكمهم على الراوي جرحاً أو تعديلاً، وقد اتفق علماء الحديث قديماً وحديثاً على أن يجمعوا هذه الألفاظ ضمن مراتب محددة، تضم كل مرتبة عدداً من الألفاظ المتقاربة في الدلالة، ولكنهم اختلفوا في تقسيم هذه المراتب، فمنهم من جعل مراتب للجرح وأخرى للتعديل، ومنهم من جعلها متتابعة من قولهم ثقة ثقة، إلى قولهم: أكذب الناس، كما هو مبين في مظانه من كتب المصطلح وأصول الحديث مما يطول بيانه ويصعب حصره في مقال واحد.

ومن مراتب الجرح والتعديل التي اتفقوا عليها: الأولى أهل الاستقامة والإتقان، والثانية من ليسوا موصوفين بالحفظ والإتقان، والثالثة هم المتهمون. ومنهم من توسع فذكر أربع مراتب للتعديل ومثلها للتجريح، ومن مراتب التعديل: الأولى؛ من يحتج بحديثه، وهي: ثقة، متقن، ثبت، والثانية من يكتب حديثه وينظر فيه، وهي: صدوق أو محله الصدق، أو لا بأس به، أو صدوق ولا بأس به والثالثة وهي أيضاً يكتب حديثه إلا أنه دون الثانية كقولهم شيخ، والرابعة يكتب حديثه للاعتبار كقولهم صالح الحديث. ومنهم من كان يكرر لفظ التوثيق، إما مع تباين اللفظين، كقولهم: ثبت حجة، أو ثبت حافظ، أو ثقة متقن، أو نحو ذلك، أو مع إعادة اللفظ كقولهم: ثقة ثقة، ونحوها.

أما الحافظ ابن حجر فقد قسم المراتب كلها إلى اثنتي عشرة مرتبة، ستة منها للتعديل، وأخرى للتجريح، نذكرها لوضوحها وحسن تقسيمها، حيث جعل المرتبة الأولى: هم الصحابة، والثانية: من تأكد مدحه بأفعل التفضيل كأوثق الناس، والثالثة: من أفرد بصفة كثقة، أو متقن، أو ثبت، والرابعة: من قصر عن الدرجة الثالثة قليلاً وأشار إليه بصدوق، أو لا بأس به، والخامسة: من قصر عن الرابعة قليلاً، وأشار إليه بصدوق سيء الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بآخرة، والسادسة: من ليس له إلا القليل من الحديث ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه اشار بلفظ مقبول، أو لين الحديث، والسابعة: من لم يوثق وروى عنه أكثر من واحد، وأشار إليه بلفظ مستور الحال، أو مجهول الحال، والثامنة: من لم يوجد فيه توثيق معتبر، ووجد فيه إطلاق الضعف الذي لم يفسر، وأشار إليه بقوله: ضعيف، والتاسعة: من لم يرو عنه غير واحد ولم يوثق، وإليه أشار بقوله: مجهول، والعاشرة: من لم يوثق، وهو ضعيف، وإليه أشار بلفظ متروك أو متروك الحديث، أو واهي الحديث، أو ساقط. والحادية عشر: من اتهم بالكذب، والثانية عشرة: من أطلق عليه اسم الكذب أو الوضع.

أما ما يخص (الصدوق) فتكاد تتفق كلمة علماء الجرح والتعديل على أن الصدوق هو مرتبة من مراتب التعديل، على اختلاف في توصيفهم وتقسيمهم لهذه المرتبة، فالصدوق كما يبدو مشتقة من الصدق، وهو صيغة مبالغة، وهو خلاف الكذب، فهو وصف بالصدق على طريقة المبالغة، وقال الذهبي: الصدوق هو من لا يكثر خطؤه، ولكنه قد يخطئ.

مما سبق نرى أن ألفاظ التعديل من المرتبة الأولى حتى الأخيرة، تجعل الراوي مقبولاً، ولكن هذه الألفاظ تتفاضل فيما بينها، فكل ثقة صدوق، وليس العكس، وقد كان لكل عالم من علماء الجرح والتعديل ألفاظه الخاصة التي يعدِّل فيها أو يجرَح، وقد تبين لي من خلال تتبع أقوال العلماء في استعمالهم لهذه اللفظة (صدوق) أنها لفظة من ألفاظ التعديل والتوثيق، وأن خبره معتبر، ومحتج به، ومقبول، على اختلاف بين هذه اللفظة وبين بقية الفاظ التعديل الذي هو من باب الفاضل والأفضل كما قال بعض العلماء.

وقد كان بعض العلماء يصف بعض الرواة الثقات بقوله: حدثني الصدوق، كما في رواية ابن المبارك لحديث عبدالله بن مسعود الذي كان يرويه عن جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود، فكان يقول: حدثني الصدوق، عن الصدوق، عن الصدوق عن الصدوق عن الصادق المصدوق وهو النبي صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء كلهم ثقات.

وكان بعض العلماء يفرقون بين الثقة وغيرها من ألفاظ التعديل ويستندون إلى أدلة منها أن عبدالرحمن بن مهدي سئل عن أبي خلدة: أثقة هو، فكان يقول، بل صدوق كان مأموناً، الثقة سفيان وشعبة.
وليس هذا فحسب بل كان بعض العلماء يفرقون بين الحجة الثبت، وبين بقية ألفاظ التوثيق، ولكن هذه التفرقة ليست على اعتبار أنها مراتب متغايرة، إنما هي من باب التفريق في نفس المرتبة الواحدة، فألفاظ التوثيق دائرة بين الاحتجاج والاعتبار والقبول، على تفاوت بينها، وفائدة هذا التمييز يظهر حين إرادة الترجيح بين الروايات عند تعارضها، فلا شك أن رواية الثقة تقدم على رواية الصدوق وهكذا.

يعد الإمام أبو حاتم الرازي من أشهر من فرق بين الصدوق وغيره، حيث قسَّم مراتب الجرح والتعديل وتعامل تعاملاً خاصاً مع مرتبة الصدوق، حيث ذكر مرةً الصدوق في المرتبة الثالثة والرابعة، فقال: ويعرف من كان منهم عدلاً في نفسه من أهل الثبت في الحديث والحفظ له والإتقان فيه فهؤلاء هم أهل العدالة، ومنهم الصدوق في روايته، الورع في دينه، الثبت الذي يهم أحياناً، وقد قبله الجهابذة النقاد، فهذا يحتج بحديثه، ومنهم الصدوق الورع المغفل، الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام.

فهو بهذا جعل للصدوق ثلاث مراتب، وهي: الأولى الصدوق العدل الورع الحافظ، والثانية الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحياناً، والثالثة الصدوق الورع المغفل الذي يغلب عليه الوهم والخطأ، ولهذا ينبغي أن يعلم الصدوق في أي مرتبة من هذه المراتب هو، ومن هنا كانت عبارة العلماء" يكتب حديثه وينظر فيه"، بمعنى: أن ينظر من أي هذه المراتب هو، فقولهم: صدوق، قد تعني صدوق ثقة، أو صدوق حجة، فهو يقصد العدالة، وإن قالوا: صدوق حسن الحديث أو صالح الحديث فهو الصدوق الورع الثبت الذي يهم أحياناً، وإن قالوا: صدوق يُكتب حديثه ولا يحتج به، فيقصد به الصدوق الورع المغفل الذي يغلب عليه الوهم والخطأ.
أما حين يطلق على الراوي لفظ (صدوق) دون إلحاقها بلفظ آخر، فهذه تقدر بقدرها عند الجهابذة من علماء الحديث.

والمتتبع لأحكام بعض علماء الجرح والتعديل كابن أبي حاتم وغيره يرى أن الكثير من المواضع قد اقترن فيها لفظة صدوق بغيرها، كقول ابن معين في أحد الرواة: صدوق كثير الخطأ، أو قول ابن أبي حاتم عن عطاء الخراساني: لا بأس به صدوق. أو قول البخاري: صدوق إلا أنه لا يدري صحيح الحديث من سقيمه، وهي تشبه القسم الثاني، الصدوق الورع المغفل الذي يغلب عليه الوهم والخطأ عند ابن أبي حاتم، وتقابل مرتبة صدوق يهم عند الحافظ ابن حجر.

من هنا نرى أن ابن أبي حاتم وغيره من جهابذة علم الحديث قد بينوا أن من قيل له صدوق أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يُكتب حديثه وينظر فيه، فهو بمعنى أن الصدوق ليس ضعيفاً، ولكنه لا يحتج به مطلقاً، ولا بد قبل الاحتجاج أن ينظر في حديثه.

وقال ابن حبان في كتابه الثقات: "وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة ولم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز، فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره". وقال الخطيب: "لأن أهل العلم أجمعوا على أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به"

أما الحافظ ابن حجر فقد سبق أنه جعل "الصدوق من المرتبة الرابعة وهي من قصر عن درجة المرتبة الثالثة قليلاً". وهذا يعني أن له مفهوما خاصا عن الصدوق يختلف عن غيره، فالصدوق عند العلماء هو العدل الذي خف ضبطه، ولكنه عند ابن حجر - في الغالب - الراوي الذي وثقه أغلب العلماء وجرحه عدد قليل منهم، فسماه صدوقاً إشارة إلى وجود من يضعفه، وإن كانوا قلة مقابل العدد الكبير من الموثقين. وقد أطلق الحافظ ابن حجر مصطلح صدوق على كثير ممن أخرج لهم البخاري ومسلم، ولا يعقل أنه بقوله عنهم صدوق لا يحتج بحديثهم، أو أنه يرى أن في الصحيحين أحاديث غير محتج بها. وهذا يدل على أن ابن حجر لم يقصد تضعيف أو تليين روايات من وصفهم بدرجة الصدوق، فمرتبة الصدوق عنده التصحيح في الأغلب. فليس معنى قول الحافظ صدوق أن حديثه حسن، إنما قد يكون حسن الحديث، وقد يكون صحيحاً.

وقد بين الإمام السخاوي ذلك ووضحه بقوله: فالصدوق إذا تفرد بما لا متابع له فيه ولا شاهد، ولم يكن عنده من الضبط ما يشترط في المقبول فهذا أحد قسمي الشاذ.

ويؤيد هذا المعنى من العلماء المعاصرين الدكتور نور الدين العتر حيث قال بعد أن تتبع أقوال العلماء السابقين في تفصيل معنى مرتبة الصدوق، فقال: وهذا اتفاق منهم على أن كلمة صدوق لا يحتج بمن قيلت فيه إلا بعد الاختبار والنظر، ليعلم هل يضبط الحديث أو لا، وهذا يرد ما زعمه البعض: أن من قيلت فيه يكون حديثه حجة من الحسن لذاته، دون أن يقيده بأن ينظر فيه.

من هنا يمكن أن أقول: إن الراوي الصدوق حديثه مقبول، عند أغلب علماء الجرح والتعديل، وأنه محتج به، على اختلاف في درجات الاحتجاج بين الصحة والحسن، وأن بعض هذه الروايات تحتاج إلى النظر والبحث والاختبار، وأن بعض هذه الروايات تكون إلى الضعف أقرب، وذلك يتبين بعد دراسة أحوال الراوي، ذلك أن الراوي الذي يقولون فيه صدوق يعني أن في هذا الراوي كلام، وليس معناه إنزال حديثه من مرتبة الصحيح إلى الحسن في جميع الحالات، وينبغي تتبع أحواله، والبحث لحديث عن رواية أخرى في باب المتابعات والشواهد لتقويته وإخراجه عن حد التفرد.

ولا شك أن الموضوع يحتاج أكثر من هذا البيان، وهو في مظانه من كتب المصطلح، وفي هذا القليل بيان ودليل، ومن أراد المزيد فعليه بكتب الأصول، ففيها تفصيلات وتطبيقات يصعب الوقوف عليها، والله تعالى أعلم.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة