الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف

وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف

وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف

في سياق الحديث عن المنافقين والإخبار عن مواقفهم المشينة، نقرأ قوله عز وجل: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (النساء:83) وقفتنا مع سبب نزول هذه الآية.

يرى جمهور المفسرين أن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تحدث الله عنهم بقوله: {ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون فأعرض عنهم وتوكل على الله وكفى بالله وكيلا} (النساء:81)، يقول الإمام الطبري ما نصه: "وإذا جاء هذه الطائفة المبيِّتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرٌ من الأمن، فالهاء والميم في قوله: {جاءهم} من ذكر الطائفة المبيِّتة. يقول جل ثناؤه: {وإذا جاءهم} خبر عن سرية للمسلمين غازية، بأنهم قد أمنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم، أو تخوفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم، أفشوه وبثوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل مأتى سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، فالطبري لم يصرح بأن الآية نزلت في المنافقين، بيد أن فحوى كلامه يدل على أن سبب نزول الآية ما كان من أمر المنافقين من نشر الأخبار المغرضة وبثها.

وقال البغوي: "قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به} وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا، فإذا غَلبوا، أو غُلبوا بادر المنافقون، يستخبرون عن حالهم فيفشون، ويحدثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيضعفون به قلوب المؤمنين، فأنزل الله: {وإذا جاءهم} يعني المنافقين".

وقال ابن عطية: "قوله تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن} قال جمهور المفسرين: الآية في المنافقين، حسبما تقدم من ذكرهم، والآية نازلة في سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه، والمعنى: أن المنافقين كانوا يشرهون إلى سماع ما يسوء النبي صلى الله عليه وسلم في سراياه، فإذا طرأت لهم شبهة أمن للمسلمين، أو فُتح عليهم، حقروها، وصغروا شأنها، وأذاعوا بذلك التحقير والتصغير، وإذا طرأت لهم شبهة خوف للمسلمين، أو مصيبة، عظموها، وأذاعوا بذلك التعظيم".

وقال ابن عاشور: "ضمير الجمع {جاءهم} راجع إلى الضمائر قبله العائدة إلى المنافقين، وهو الملائم للسياق...والكلام مسوق مساق التوبيخ للمنافقين، واللوم لمن يقبل مثل تلك الإذاعة من المسلمين الأغرار".

فإن قال قائل: إذا كان الله يتحدث عن المنافقين، فكيف وصف أولي الأمر بأنهم {منهم}؟ أجاب الزجاج عن هذا بقوله: "وكان ضعفة المسلمين يشيعون ذلك معهم من غير علم بالضرر في ذلك، فقال الله عز وجل: ولو ردوا ذلك إلى أن يأخذوه من قِبَل الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن قِبَل أولي الأمر منهم، أي من قِبَل ذوي العلم والرأي منهم لعلمه هؤلاء الذين أذاعوا به من ضعفة المسلمين من النبي صلى الله عليه وسلم، وذوي العلم، وكان يعلمون مع ذلك هل ينبغي أن يذل، أو لا يذل".

وقال ابن عاشور: "وَصْف {أولي الأمر} بأنهم منهم جار على ظاهر الأمر وإرخاء العِنان، أي: أولو الأمر الذين يجعلون أنفسهم بعضهم، وإن كان المـُتَحدَّث عنهم المؤمنين، فالتبعيض ظاهر". قوله: "فالتبعيض ظاهر" يريد به {ولو ردوه} وما بعدها أنها في المؤمنين الضعفاء، وما قبلها في المنافقين، ولم يُرِد أن الآية بكمالها في المؤمنين في قوله: "وإن كان المـُتَحدَّث عنهم المؤمنين"؛ لأن التبعيض ينتفي حينئذ.

هذا، وقد روى الإمام مسلم ما يفيد أن سبب نزول هذه الآية قضية اعتزال رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وروى حديث عمر رضي الله عنه، قال: لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه، قال: دخلت المسجد، فإذا الناس ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل أن يؤمرن بالحجاب، فقلت: لأعلمن ذلك اليوم، فدخلت على عائشة، فقلت: يا بنت أبي بكر! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقالت: ما لي وما لك يا ابن الخطاب! عليك بعيبتك -تقصد بنته حفصة- قال: فدخلت على حفصة، فقلت لها: يا حفصة! أقد بلغ من شأنك أن تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والله، لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يحبك، ولولا أنا لطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت أشد البكاء، فقلت لها: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خزانته في المشربة، فدخلت، فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاعداً على أُسْكُفَّة المشربة -عتبة الباب-، مُدْلٍ رجليه على نقير من خشب -أي على شيء من خشب، نقر وسطه حتى يكون كالدرجة-، وهو جذع يرقى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وينحدر، فناديت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي، فلم يقل شيئاً، ثم قلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظر رباح إلى الغرفة، ثم نظر إلي، فلم يقل شيئاً، ثم رفعت صوتي، فقلت: يا رباح! استأذن لي عندك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني أظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظن أني جئت من أجل حفصة، والله، لئن أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضرب عنقها، لأضربن عنقها، ورفعت صوتي، فأومأ إلي أن ارقه، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على حصير، فجلست، فأدنى عليه إزاره، وليس عليه غيره، وإذا الحصير قد أثَّر في جنبه، فنظرت ببصري في خزانة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بقبضة من شعير نحو الصاع، ومثلها قرظاً -القرظ ورق السلم يدبغ به- في ناحية الغرفة، وإذا أفيق -هو الجلد الذي لم يتم دباغه- معلق، قال: فابتدرت عيناي، قال: (ما يبكيك يا ابن الخطاب!) قلت: يا نبي الله! وما لي لا أبكي، وهذا الحصير قد أثر في جنبك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاك قيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصفوته، وهذه خزانتك، فقال: (يا ابن الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا؟)، قلت: بلى، قال: ودخلت عليه حين دخلت، وأنا أرى في وجهه الغضب، فقلت: يا رسول الله، ما يشق عليك من شأن النساء؟ فإن كنت طلقتهن، فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكائيل، وأنا، وأبو بكر، والمؤمنون معك، وقلما تكلمتُ -وأحمد الله- بكلام، إلا رجوت أن يكون الله يصدق قولي الذي أقول، ونزلت هذه الآية آية التخيير: {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن} (التحريم:5)، {وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير} (التحريم:4)، وكانت عائشة، وحفصة تظاهران على سائر نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! أطلقتهن؟ قال: (لا)، قلت: يا رسول الله! إني دخلت المسجد والمسلمون ينكتون بالحصى، يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل، فأخبرهم أنك لم تطلقهن؟ قال: (نعم، إن شئت)، فلم أزل أحدثه حتى تحسر الغضب عن وجهه، وحتى كشر فضحك، وكان من أحسن الناس ثَغْراً، ثم نزل نبي الله صلى الله عليه وسلم، ونزلتُ، فنزلتُ أتشبث بالجذع، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما يمشي على الأرض ما يمسه بيده، فقلت: يا رسول الله! إنما كنتَ في الغرفة تسعة وعشرين، قال: (إن الشهر يكون تسعاً وعشرين)، فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، ونزلت هذه الآية: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم} (النساء:83) فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله عز وجل آية التخيير.

وقد اختار ابن كثير حديث عمر سبباً لنزول هذه الآية، حيث قال بعد إنكار المبادرة إلى الأمور قبل تحققها: "ولنذكر ها هنا حديث عمر بن الخطاب حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه". فذكر الحديث مختصراً، وفيه نزول هذه الآية الكريمة.

أما ابن عطية فقد جعل الأمر محتملاً، فقال عن السبب: "فإما أن يكون ذلك في أمر السرايا، وإما أن يكون ذلك في سائر الأمور الواقعة، كالذي قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جاء، وقوم في المسجد يقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه".

وواضح أن سياق الآيات لا يؤيد نزول الآية في قصة إيلاء النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه، وإنما السياق ظاهر في توبيخ المنافقين، ولوم من يتابعهم من ضعاف المؤمنين؛ وذلك لأن السياق نص في أن الذي يأتي أمرٌ من الأمن أو الخوف. وأين هذان من قضية الإيلاء؟ فليس فيها أمن، أو خوف. وعلى هذا جرى جمهور المفسرين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة