الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من صور الإعجاز العلمي في القرآن 2-2

من صور الإعجاز العلمي في القرآن 2-2

من صور الإعجاز العلمي في القرآن 2-2

في مقال سابق تبين لنا أن دخول السماء لا يمكن أن يكون إلا من خلال باب يُفتح، وأن حركة الأجسام في السماء إنما تكون في خطوط منحنية غير مستقيمة، وهو ما أسماه القرآن بـ (العروج) تلك كانت بعض صور الإعجاز العلمي الواردة في قوله تعالى: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون} (الحجر:14).

ونتوقف اليوم عند ملمح آخر من ملامح الإعجاز العلمي في الآية التالية، وهي قوله تعالى: {لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون} (الحجر:15) ومعنى الآية: أنه لو فُتح باب من السماء لهؤلاء المنكرين لعظمة هذا الخالق، لقالوا: إنما سُكِّرت أعيننا وسُدَّت، أو غشيت وغطيت، فلم تعد تبصر شيئًا، وحينئذ -والحالة هذه- لم يعد يرى الإنسان إلا الظلام.

وهذا التشبيه القرآني البليغ يمثل حقيقة كونية أثبتها العلم الحديث اليوم، ولم يكن يعرفها الإنسان قبلُ؛ فبعد أن تمكن الإنسان من الوصول إلى الفضاء، اكتشف حقيقة أن الكون يغشاه الظلام الدامس في غالبية أجزائه، وأن حزام النهار في نصف الكرة الأرضية المواجه للشمس لا يتعدى سمكه (200كم) فوق سطح البحر. وإذا ارتفع الإنسان فوق ذلك فإنه يرى الشمس قرصًا أزرق في صفحة سوداء حالكة السواد.

وإذ كان الجزء الذي يتجلى فيه النهار على الأرض محدودًا في طوله وعرضه وسمكه، وكان في حركة دائمة دائبة، وكانت المسافة بين الأرض والشمس في حدود (150مليون كم) وكان نصف قطر الجزء المدرك في الكون يُقدَّر باثني عشر بليون سنة ضوئية (114.2110كم) أدركنا ضآلة سمك الطبقة التي يعمها نور النهار، وعدم استقرارها لانتقالها باستمرار من نقطة إلى أخرى؛ ويتضح لنا كذلك، أن تلك الطبقة الرقيقة تحجب عنا ظلام الكون، خارج حدود أرضنا، ونحن في وضح النهار، فإذا أقبل الليل أدبر النهار، واتصلت ظلمة ليلنا بظلمة الكون، وتحركت تلك الطبقة الرقيقة من النور لتفصل نصف الأرض المقابل عن تلك الظلمة الشاملة.

وتجلي النهار على الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض بهذا اللون الأبيض المبهج هو نعمة كبرى من نعم الله على عباده. وبيان ذلك, أن الهواء في هذا الجزء من الغلاف الغازي للأرض له كثافة عالية نسبيًّا، وهذه الكثافة تتناقص كلما ارتفعنا حتى لا تكاد تُدرك، وهو مشبع ببخار الماء، وبهباءات الغبار التي تثيرها الرياح من فوق سطح الأرض فتعلق بالهواء، وتقوم كل من جزئيات الهواء الكثيف، وجزئيات بخار الماء، وجسيمات الغبار الدقيقة بعمليات تشتيت ضوء الشمس وعكسه حتى يظهر باللون الأبيض الذي يميز النهار كظاهرة نورانية مقصورة على النطاق الأسفل من الغلاف الغازي للأرض في نصفها المواجه للشمس.

وبعد تجاوز المائتي كيلو متر فوق سطح البحر، يبدأ الهواء في التخلخل لتضاؤل تركيزه، وقلة كثافته باستمرار مع الارتفاع، ولندرة كل من بخار وجسيمات الغبار فيه، لتضاءل نسبها بالارتفاع حتى تكاد تنعدم، تبدو الشمس وغيرها من النجوم بقعاً زرقاء باهتة في بحر غامر من الظلام؛ لأن أضواءها لا تكاد تجد ما يشتته أو يعكسه في رحاب الكون.

والقرآن الكريم قد أخبرنا بهذه الحقيقة قبل اكتشاف العلم لها، عندما شبَّه الذي يعرج في السماء بمن سُكِّرت أبصاره، فلم يعد يرى غير الظلام الشامل، والظلام الدامس؛ أو شبهه بمن اعتراه شيء من السحر، فلم يعد يُدرك شيئًا مما يدور حوله. وكلا التشبيهين تعبير دقيق عمَّا أصاب رواد الفضاء الأوائل حين تجاوزوا نطاق النهار، ودخلوا في ظلمة الكون، فنطقوا بما يكاد يكون تعبيرًا عما أخبرت به الآية القرآنية، دون علم بها: {إنما سكرت أبصارنا} (الحجر:15).

أما الملمح الإعجازي الثاني الذي نقف عليه في هذه الآية، فهو ما دل عليه قوله تعالى: {لقالوا إنما سكرت أبصارنا} ووجه ذلك، أن القول بـ (تسكير الأبصار) وظلمة الكون الشاملة إنما تتم وتكون بمجرد العروج في السماء لفترة قصيرة، ثم تظل الظلمة سائدة إلى نهاية الكون.

وقد أثبت العلم اليوم هذا بدقة شديدة، وبيان ذلك أننا إذا حسبنا النسبة المئوية لسمك طبقة النهار، وهي (200كم) إلى المسافة بين الأرض والشمس، وهي (150مليون كم) لكان حاصل النسبة هو (1/750) ألف تقريبًا، فإذا نسبنا الحاصل إلى نصف قطر الجزء المدرك من الكون لتبين أنه لا يساوي شيئًا البتة، ومن هنا تتضح لنا روعة التشبيه القرآني في قوله تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} (يـس:37) حيث شبه انحسار طبقة النهار البالغة الرقة بسلخ جلد الذبيحة الرقيق عن كامل بدنها، الأمر الذي يؤكد أن الظلام هو الأصل في الكون، وأن النهار ظاهرة عارضة رقيقة لا تظهر إلا في الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي للأرض، وفي نصفها المواجه للشمس في دورة الأرض حول نفسها أمام ذلك النجم، وبتلك الدورة ينسلخ النهار تدريجيًّا من ظلمة كلٍ من ليل الأرض وحلكة السماء، كما ينسلخ جلد الذبيحة من جسمها.

ومما يؤكد دوام ظلمة السماء ما قرره القرآن في مقام آخر، وهو قوله تعالى: {أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سمكها فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها} (النازعـات:27-29) فالضمير في قوله سبحانه: {وأغطش ليلها} يعود إلى السماء، والمعنى أن الله تعالى قد جعل ليل السماء حالك السواد من شدة إظلامه، فهو دائم الإظلام، سواء اتصل بظلمة ليل الأرض أو انفصل عنها بتلك الطبقة الرقيقة التي يعمها نور النهار، فيصفه ربنا سبحانه بقوله: {وأخرج ضحاها} أي: أظهر ضوء شمس السماء؛ لإحساس المشاهدين لها من سكان الأرض بالنور والدفء معًا في نهار الأرض.

ويؤكد هذا المعنى ويوضحه، قَسَمَ الحقّ سبحانه بالنهار، إذ يجلي الشمس، أي: يكشفها ويوضحها، فيقول: {والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها} (الشمس:1-4) أي أن النهار هو الذي يجعل الشمس واضحة جلية لمن يراها من سكان الأرض. وهذه لمحة أخرى من لمحات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، تقرر أن ضوء الشمس لا يُرى إلا على هيئة النور في نهار الأرض، وأن الكون خارج نطاق الأرض ظلام دامس، وأن هذا النطاق النهاري لابد أن به من الصفات ما يعينه على إظهار وتجلية ضوء الشمس لأحياء الأرض.

وبعد: فهذه بعض ملامح الإعجاز العلمي الذي تضمنته هاتان الآيتان الكريمتان، ولا شك أن فيهما من الإعجاز وفي غيرهما من الآيات ما لم يكشفه العلم بعدُ، مما يؤكد ويؤيد إعجاز هذا القرآن: {وإنه لتنزيل رب العالمين} (الشعراء:192) وأنه: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} (فصلت:42) وأنه المعجزة الباقية أبد الدهر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وصدق الله جل ثناؤه إذ يقول: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق} (فُصلت:53).

(يُرَاجَع في هذه السلسلة من المقالات، زغلول النجار، صحيفة الأهرام، العدد: 41874).

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة