الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة على أن الإيمان إقرار بالقلب رحمه الله : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، قال تعالى خبرا عن إخوة يوسف : وما أنت بمؤمن لنا [ ص: 471 ] [ يوسف : 17 ] أي بمصدق لنا ، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك . ثم هذا المعنى اللغوي ، وهو التصديق بالقلب ، هو الواجب على العبد حقا لله ، وهو أن يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند الله ، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا . هذا على أحد القولين ، كما تقدم ، ولأنه ضد الكفر ، وهو التكذيب والجحود ، وهما يكونان بالقلب ، فكذا ما يضادهما . وقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [ النحل : 106 ] يدل على أن القلب هو موضع الإيمان ، لا اللسان ، ولأنه لو كان مركبا من قول وعمل ، لزال كله بزوال جزئه ، ولأن العمل قد عطف على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، قال تعالى : آمنوا وعملوا الصالحات ، في مواضع من القرآن .

وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق - بمنع الترادف بين التصديق والإيمان ، وهب أن الأمر يصح في موضع ، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقا ؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان . ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدق : صدقه ، ولا يقال : آمنه ، ولا آمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال تعالى : فآمن له لوط [ العنكبوت : 26 ] .

[ ص: 472 ] فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه [ يونس : 83 ] . وقال تعالى : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين [ التوبة : 61 ] ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام ، فالأول يقال للمخبر به ، والثاني للمخبر . ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدق لنا ، لأن دخول اللام لتقوية العامل ، كما إذا تقدم المعمول ، أو كان العامل اسم فاعل ، أو مصدرا ، على ما عرف في موضعه .

فالحاصل أنه لا يقال قط : قد آمنته ، ولا صدقت له ، إنما يقال . آمنت له ، كما يقال : أقررت له . فكان تفسيره بأقررت - أقرب من تفسيره بصدقت ، مع الفرق بينهما ، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى ، فإن كل مخبر عن مشاهدة أو غيب ، يقال له في اللغة : صدقت ، كما يقال له : كذبت . فمن قال : السماء فوقنا ، قيل له : صدقت .

وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب ، فيقال لمن قال : طلعت الشمس - : صدقناه ، ولا يقال : آمنا له ، فإن فيه أصل معنى الأمن ، والائتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب ، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر . ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له - إلا في هذا النوع . ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق ، وإنما يقابل بالكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب ، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك - : لكان كفره أعظم ، فعلم أن الإيمان ليس هو التصديق فقط ، ولا الكفر هو التكذيب فقط ، بل إذا كان الكفر [ ص: 473 ] يكون تكذيبا ، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب . فكذلك الإيمان ، يكون تصديقا وموافقة وانقيادا ، ولا يكفي مجرد التصديق ، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان .

ولو سلم الترادف ، فالتصديق يكون بالأفعال أيضا . كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : العينان تزنيان ، وزناهما النظر ، والأذن تزني ، وزناها السمع إلى أن قال : والفرج يصدق ذلك ويكذبه . وقال الحسن البصري رحمه الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكنه ما وقر في الصدر وصدقته الأعمال . ولو كان تصديقا فهو تصديق مخصوص ، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم ، وليس هذا نقلا للفظ ولا تغييرا له ، فإن الله لم يأمرنا بإيمان [ ص: 474 ] مطلق ، بل بإيمان خاص ، وصفه وبينه . فالتصديق الذي هو الإيمان ، أدنى أحواله أن يكون نوعا من التصديق العام ، فلا يكون مطابقا له في العموم والخصوص ، من غير تغيير للبيان ولا قلبه ، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفا من العام والخاص ، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق . أو لأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه من لوازم الإيمان التام ، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم .

ونقول : إن هذه اللوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة ، وتخرج عنه أخرى ، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ، ولكن الشارع زاد فيه أحكاما ، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي ، فهو حقيقة شرعية ، مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع . وهذه أقوال لمن سلك هذه الطريق .

وقالوا : إن الرسول قد وقفنا على معاني الإيمان ، وعلمنا من مراده علما ضروريا أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان ، مع قدرته على ذلك ، ولا صلى ، ولا صام ، ولا أحب الله ورسوله ، ولا خاف الله بل كان مبغضا للرسول ، معاديا له يقاتله - : أن هذا ليس بمؤمن .

التالي السابق


الخدمات العلمية