الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        فصل

                        ومما يتعلق به بعض المتكلفين : أن الصوفية هم المشهورون باتباع السنة ، المقتدون بأفعال السلف ، المثابرون في أفعالهم وأقوالهم [ ص: 271 ] على الاقتداء التام والفرار عما يخالف ذلك ، ولذلك جعلوا طريقتهم مبنية على : أكل الحلال ، واتباع السنة والإخلاص .

                        وهذا هو الحق ، ولكنهم في كثير من الأمور يستحسنون أشياء ؛ لم تأت في كتاب ولا سنة ، ولا عمل بأمثالها السلف ، فيعملون بمقتضاها ، ويثابرون عليها ، ويحكمونها طريقا لهم مهيعا وسنة لا تخلف ، بل ربما أوجبوها في بعض الأحوال ، فلولا أن في ذلك رخصة ؛ لم يصح لهم ما بنوا عليه .

                        فمن ذلك أنهم يعتمدون في كثير من الأحكام على : الكشف ، والمعاينة ، وخرق العادة ، فيحكمون بالحل والحرمة ، ويثبتون على ذلك الإقدام والإحجام :

                        كما يحكى عن المحاسبي أنه كان إذا تناول طعاما في شبهة ؛ ينبض له عرق في إصبعه ، فيمتنع منه .

                        وقال الشبلي : " اعتقدت وقتا أن لا آكل إلا من حلال ، فكنت أدور في البراري ، فرأيت شجرة تين ، فمددت يدي إليها لآكل ، فنادتني الشجرة : احفظ عليك عهدك ، لا تأكل مني ؛ فإني ليهودي " .

                        وقال إبراهيم الخواص : " دخلت خربة في بعض الأسفار في طريق مكة بالليل ، فإذا فيها سبع عظيم ، فخفت ، فهتف بي هاتف : اثبت ! فإن حولك سبعين ألف ملك يحفظونك " .

                        فمثل هذه الأشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ؛ ظهر عدم البناء عليها ، إذ المكاشفة أو الهاتف المجهول أو تحريك بعض العروق لا يدل [ ص: 272 ] على التحليل ولا التحريم ؛ لإمكانه في نفسه ، وإلا ؛ لو حضر ذلك حاكم أو غيره ؛ لكان يجب عليه أو يندب البحث عنه حتى يستخرج من يد واضعه بين أيديهم إلى مستحقه ، ولو هتف هاتف بأن فلانا قتل المقتول الفلاني ، أخذ مال فلان ، أو زنى ، أو سرق ؛ أكان يجب عليه العمل بقوله ؟ ويكون شاهدا في بعض الأحكام ؟ بل لو تكلمت شجرة أو حجر بذلك أكان يحكم الحاكم به أو يبنى عليه حكم شرعي ؟ ! هذا مما لا يعهد في الشرع مثله .

                        ولذلك قال العلماء : لو أن نبيا من الأنبياء ادعى الرسالة ، وقال : إنني إن أدع هذه الشجرة فتكلمني ، ثم دعاها ، فأتت وكلمته وقالت : إنك كاذب ؛ لكان ذلك دليلا على صدقه ، لا دليلا على كذبه ؛ لأنه تحدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه ، وكون الكلام تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن مقتضى الدعوى لا حكم له .

                        فكذلك نقول في هذه المسألة : إذا فرضنا أن انقباض العرق لازم لكون الطعام حراما ؛ لا يدل ذلك على أن الحكم بالإمساك عنه إذا لم يدل عليه دليل معتبر في الشرع معلوم ، فكذلك مسألة الخواص ؛ فإن التوقي من مظان المهلكات مشروع ، فخلافه يظهر أنه خلاف المشروع ، وهو معتاد في أهل هذه الطريقة ، وكذلك كلام الشجرة للشبلي من جملة الخوارق ، وبناء الحكم عليه غير معهود .

                        ومن ذلك أنهم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جملة ، حتى إن شيخهم الذي مهد لهم الطريقة أبا القاسم القشيري قال في باب وصية المريدين من رسالته :

                        [ ص: 273 ] " إن اختلف على المريد فتاوى الفقهاء ؛ يأخذ بالأحوط ، ويقصد أبدا الخروج عن الخلاف ؛ فإن الرخص في الشريعة للمستضعفين وأصحاب الحوائج والأشغال ، وهؤلاء الطائفة ـ يعني : الصوفية ـ ليس لهم شغل سوى القيام بحقه سبحانه ، ولهذا قيل : إذا انحط الفقير عن درجة الحقيقة إلى رخصة الشريعة ؛ فقد فسخ عقده مع الله ، ونقض عهده فيما بينه وبين الله " .

                        فهذا الكلام ظاهر في أنه ليس من شأنهم الترخص في مواطن الترخص المشروع ، وهو ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الصحابة والتابعين . . . . فالتزام العزائم مع وجود مظان الرخص التي قال فيها رسول الله عليه وسلم : إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ، فيه ما فيه ، وظاهره أنه بدعة استحسنوها قمعا للنفس عن الاسترسال في الميل إلى الراحة ، وإيثارا إلى ما يبنى عليه من المجاهدة .

                        ومن ذلك أن القشيري جعل من جملة ما يبني عليه من أراد الدخول في طريقهم : " الخروج عن المال ؛ فإن ذلك الذي يميل إليه به عن الحق ، ولم يوجد من يدخل في هذا الأمر ومعه علاقة من الدنيا ؛ إلا جرته تلك لعلاقة عن قريب إلى ما منه خرج . . . " إلى آخر ما قال .

                        وهو في غاية الإشكال مع ظواهر الشريعة ؛ لأنا نعرض ذلك على الحالة الأولى ، وفي حالة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام ، إذ لم يأمر أحدا بالخروج عن ماله ، ولا أمر صاحب صنعة بالخروج عن صنعته ، ولا [ ص: 274 ] صاحب تجارة بترك تجارته ، وهم كانوا أولياء الله حقا ، والطالبون لسلوك طريق الحق صدقا ، وإن سلك من بعدهم ألف سنة ؛ لم يبلغ شأوهم ، ولم يبلغ هداهم .

                        ثم إنه كما يكون المال شاغلا في الطريق عن بلوغ المراد ؛ فكذلك يكون فراغ اليد منه جملة شاغلا عنه ، وليس أحد العارضين أولى بالاعتبار من الآخر .

                        فأنت ترى كيف جعل هذا النوع - الذي لم يوجد في السلف عهده - أصلا في سلوك الطريق ، وهو - كما ترى - محدث ، فما ذلك إلا لأن الصوفية استحسنوه ؛ لأنه بلسان جميعهم ينطق .

                        ومن ذلك أنهم يقولون : إنه لا يصح للشيوخ التجاوز عن زلات المريدين ؛ لأن ذلك تضييع لحقوق الله تعالى .

                        وهذا النفي العام يستنكر في الحكم الشرعي ، ألا ترى إلى ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله : " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم ، وذلك فيما لم يكن حدا من حدود الله " ؟ فلو كان العفو غير صحيح ؛ لكان مخالفا لهذا الدليل ، ولما جاء من فضل العفو .

                        وأيضا ؛ فإن الله يحب الرفق ويرضى به ويعين عليه ما لا يعين على العنف ، ومن جملة الرفق شرعية التجاوز والإغضاء ، إذ العبد لا بد له من زلة وتقصير ، ولا معصوم إلا من عصمه الله .

                        - [ و ] من ذلك أخذهم على المريد أن يقلل من غذائه ، لكن [ ص: 275 ] بالتدريج ؛ شيئا بعد شيء لا مرة واحدة ، وأن يديم الجوع والصيام ، وأن يترك التزويج ما دام في سلوكه بعد .

                        وذلك كله من مشكلات التشريع ، بل هو شبيه بالتبتل الذي رده رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه ، حتى قال : " من رغب عن سنتي فليس مني " .

                        وإذا تأمل [ المرء ] ما ذكروه في شأن التدريج في ترك الغذاء ؛ وجده غير معهود في الزمان الأول والقرن الأفضل .

                        ومن ذلك أشياء ألزموها المريد حالة السماع ؛ من طرح الخرق ، وأن من حق المريد أن لا يرجع في شيء خرج عنه ألبتة ؛ إلا أن يشير عليه الشيخ بالرجوع فيه ، فليأخذه على نية العارية بقلبه ، ثم يخرج عنه بعد ذلك ؛ من غير أن يوحش قلب الشيخ . . . إلى أشياء اخترعوها في ذلك ، لم يعهد مثلها في الزمان الأول ، وذلك من نتائج مجالس السماع الذي اعتمدوه .

                        والسماع في طريقة التصوف ليس منها ؛ لا بالأصل ولا بالتبع ، ولا استعمله أحد من السلف ممن يشار إليه حاذيا في طريق الخير ، وإنما رأيته مأخوذا به في ذلك وفي غيره عند الفلاسفة الآخذة للتكليف الشرعي بالتبع .

                        ولو تتبع هذا الباب ؛ لكثرت مسائله وانتشرت ، وظاهرها أنها استحسانات اتخذت بعد أن لم تكن ، والقوم - كما ترى - مستمسكون بالشرع ، فلولا أن مثل هذه الأمور لاحق بالمشروعات ؛ لكانوا أبعد الناس [ ص: 276 ] منها ، ويدل على أن من البدع ما ليس بمذموم ، بل أن منها ما هو ممدوح ، وهو المطلوب .

                        والجواب :

                        - أن نقول أولا : كل ما عمل به المتصوفة المعتبرون في هذا الشأن لا يخلو : إما أن يكون مما ثبت له أصل في الشريعة أم لا :

                        فإن كان له أصل ؛ فهم خلقاء به ؛ كما أن السلف من الصحابة والتابعين خلقاء بذلك .

                        وإن لم يكن له أصل في الشريعة ؛ فلا عمل عليه ؛ لأن السنة حجة على جميع الأمة ، وليس عمل أحد من الأمة حجة على السنة ؛ لأن السنة معصومة عن الخطأ وصاحبها معصوم ، وسائر الأمة لم تثبت لهم عصمة ؛ إلا مع إجماعهم خاصة ، وإذا اجتمعوا ؛ تضمن اجتماعهم دليلا شرعيا كما تقدم التنبيه عليه .

                        فالصوفية كغيرهم ممن لم تثبت له العصمة ، فيجوز عليهم الخطأ والنسيان والمعصية كبيرتها وصغيرتها ، فأعمالهم لا تعدو الأمرين .

                        ولذلك قال العلماء : كل كلام منه مأخوذ أو متروك إلا ما كان من كلام النبي صلى الله عليه وسلم .

                        وقد قرر ذلك القشيري أحسن تقرير ، فقال : " فإن قيل : فهل يكون الولي معصوما ( حتى لا يصر على الذنوب ) ؟ قيل : أما وجوبا كما يقال في الأنبياء ؛ فلا ، وأما أن يكون محفوظا حتى لا يصر على الذنوب - وإن حصلت منهم آفات أو زلات - ؛ فلا يمتنع ذلك في وصفهم " .

                        [ ص: 277 ] قال : " لقد قيل للجنيد : العارف بربه يزني ؟ فأطرق مليا ، ثم رفع رأسه ، وقال : وكان أمر الله قدرا مقدورا .

                        فهذا كلام منصف ، فكما يجوز على غيرهم المعاصي بالابتداع وغيره ؛ كذلك يجوز عليهم .

                        فالواجب علينا أن نقف مع الاقتداء بمن يمتنع عليه الخطأ ، ونقف على الاقتداء بمن لا يمتنع عليه الخطأ إذا ظهر في الاقتداء به إشكال ، بل نعرض ما جاء عن الأئمة على الكتاب والسنة ، فما قبلاه ؛ قبلناه ، وما لم يقبلاه ؛ تركناه ولا علينا ، إذ قام لنا الدليل على اتباع الشرع ولم يقم لنا دليل على اتباع أقوال الصوفية وأعمالهم إلا بعد عرضها ، وبذلك وصى شيوخهم ، وإن كان ما جاء به صاحب الوجد والذوق من الأحوال والعلوم والفهوم ؛ فليعرض على الكتاب والسنة ، فإن قبلاه ؛ صح ، وإلا ؛ لم يصح ، فكذلك ما رسموه من الأعمال وأوجه المجاهدات وأنواع الالتزامات .

                        - ثم نقول ثانيا : إذا نظرنا في رسومهم التي حدوا ، وأعمالهم التي امتازوا بها عن غيرهم بحسب تحسين الظن والتماس أحسن المخارج ولم نعرف لها مخرجا ؛ فالواجب علينا التوقف عن الاقتداء والعمل [ بها ] ، وإن كانوا من جنس من يقتدى بهم ، لا ردا لهم واعتراضا ، بل لأنا لم نفهم وجه رجوعه إلى القواعد الشرعية ؛ كما فهمنا غيره ، ألا ترى أنا نتوقف عن العمل بالأحاديث النبوية التي يشكل علينا وجه الفقه فيها ؟ فإن سنح بعد ذلك [ ص: 278 ] للعمل بها وجه جار على الأدلة قبلناه ، وإلا ؛ فلسنا بمطلوبين بذلك ، ولا ضرر علينا في التوقف ؛ لأنه توقف مسترشد ، لا توقف راد مطرح ، فالتوقف هنا بترك العمل أولى وأحرى .

                        ثم نقول ثالثا : إن هذه المسائل وأشباهها قد صارت مع ظاهر الشريعة كالمتدافعة ، فيحمل كلام الصوفية وأعمالهم مثلا على أنها مستندة إلى دلائل شرعية ؛ إلا أنه عارضها في النقل أدلة أوضح في أفهام المتفقهين وأنظار المجتهدين ، وأجرى على المعهود في سائر أصناف العلماء ، وأنظر في ألفاظ الشارع مما ظنناه مستند القوم ، وإذا تعارضت الأدلة ولم يظهر في بعضها نسخ ؛ فالواجب الترجيح ، وهو إجماع من الأصوليين أو كالإجماع ، وفي مذهب القوم العمل بالاحتياط هو الواجب - كما أنه مذهب غيرهم - ، فوجب بحسب الجريان على آرائهم في السلوك أن لا يعمل بما رسموه مما فيه معارضة لأدلة الشرع ، ونكون في ذلك متبعين لآثارهم ، مهتدين بأنوارهم ؛ خلافا لمن يعرض عن الأدلة ، ويصمم على تقليدهم فيما لا يصح تقليدهم فيه على مذهبهم ، فالأدلة والأنظار الفقهية والرسوم الصوفية ترده وتذمه ، وتحمد من تحرى واحتاط وتوقف عند الاشتباه واستبرأ لدينه وعرضه .

                        وبقي الكلام على أعيان ما ذكر في السؤال من أقوالهم وعوائدهم ، وما يتنزل منها على مقتضى الأدلة ، وكيف وجه تنزيلها ؟ [ و ] لا حاجة لنا إليه في هذا الموضع ، وقد بسط الكلام على جملة منها في كتاب " الموافقات " ، وإن فسح الله في المدة ، وأعان بفضله ؛ بسطنا الكلام في هذا الباب في كتاب مذهب أهل التصوف ، وبيان ما أدخل فيه مما ليس [ ص: 279 ] بطريق لهم ، والله الموفق للصواب .

                        وقد تبين أن لا دليل في شيء مما يحتج به أهل البدع على بدعتهم ، والحمد لله ، انتهى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية