الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : فيمن سمع إنسانا ينشد قول العلامة ناصح الدين الأرجاني :


            هذا الزمان على ما فيه من كدر حكى انقلاب لياليه بأهليه [ ص: 327 ]     غدير ماء تراءى في أسافله
            خيال قوم تمشوا في نواحيه     فالرأس ينظر منكوسا أسافله
            والرجل ينظر مرفوعا أعاليه



            فأعرب " الرأس " مبتدأ ، و " ينظر " المبني لما لم يسم فاعله خبر ، والضمير المستتر فيه العائد إلى الرأس معمول ل " ينظر " ، و " منكوسا " حال منه ، وأسافل منصوب على الظرف ، والضمير المتصل به عائد إلى الغدير ، وتقدير الكلام : ينظر الرأس حال كونه منكوسا أسافل الغدير . والظرف متعلق ب " ينظر " ، وكذا النصف الثاني ، فيكون تقديره : ينظر الرجل حال كونه مرفوعا في أعالي الغدير ، فيكون الشاعر قد شبه رأس الإنسان برأس الإنسان ، والرجل بالأسافل ، والغدير في حال تمثل الأشكال فيه منقلبة بالزمان في انقلابه بأهله ، ومراتب العلو والسفل الواقع في الحسن بمشاهدة الأشكال المنتكسة في الغدير الموهومة أنها سطوح ، وقيعان الغدير مراتب الدنيا ومناصبها ، ويكون سكن ياء " أعاليه " للضرورة ، فهل هذا الإعراب صحيح مستقيم أو فاسد باطل ؟ أو له وجه ما في الجملة ، أو ما قاله من رد على هذا المعرب هو الصواب ، وهو أن " أسافل " مرفوع على أنه معمول لينظر ، أعني : أنه النائب عن الفاعل ، والمراد به - أعني " الأسافل " - الأرجل ، والضمير المتصل به عائد إلى الرأس ، والمراد بالرأس هنا الإنسان من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل ، وأن هذا مثل قولهم فلان رأس بني فلان ، وعندي خمسون رأسا من الإبل ، و " منكوسا " حال من الرأس ، فيكون تقدير الكلام : ينظر أسافل الإنسان حال كون الإنسان منكوسا ، فهل هذا الإعراب صحيح ؟ وما اعتبره من مجاز الرأس معتبر علاقته بينة ، وقرينته الصارفة عن اللفظ المستعمل عما وضع له في التخاطب صالحة أو لا ؛ لأنه لا اعتبار لكون الإنسان شريفا أو وضيعا بالنسبة إلى تمثل خياله في الغدير ، وإنما الاعتبار في إنكاس الرأس المشبهة بصاحب الفضل والكمال والشرف المعتبر عند أهل النظر والعقل وارتفاع الرجل المشبه بأرذال الناس وسقاطهم ، على تقدير صحة كل ذلك هل يتمشى ذلك له في النصف الثاني من البيت ؟ وهل قول القائل : إن إطلاق الرأس على الإنسان في مثل هذا الموضع - أعني حيث لا علاقة ولا قرينة - لم يستعمله أحد من العرب ، ولا من غيرهم من المولدين وأرباب البلاغة والفصاحة مثل أن يقال : رأيت رأسا - ويريد شخصا من الإنسان - من غير حصول قرينة تدل على ذلك ، وإن مثل ذلك غير فصيح ، بل غير جائز ، وإن قيل بجوازه فهو مستهجن غير مألوف صحيح ؟ وهل يكون قول القائل في جواز ذلك : صرح الأصوليون بعدم اشتراط الوضع في المجاز ، سفسطة وهذيانا ؟ .

            الجواب : الإعراب الأول هو الصواب ، الثاني الذي قاله الراد خطأ بالكلية ، لا وجه [ ص: 328 ] له ، ولو أعربه على وجه آخر فقال : إن النائب عن الفاعل ضمير " ينظر " ، " وأسافله " مرفوع بالوصف قبله على أنه نائب فاعل اسم المفعول على حد : زيد يصبح مضروبا غلامه ، وكذا المصراع الثاني لكان له وجه في الجملة ، ومع إمكان هذا الوجه فالأول هو الصواب . ولهذا الوجه قادح خفي .

            وأما الوجه الذي قاله الراد فلا وجه له ألبتة ، وهو خطأ صراح ، والقدح فيه أظهر من أن ينبه عليه ، وكيف يصح ما ذكره من المعنى ، وهو أن التقدير : ينظر أسافل الإنسان حال كون الإنسان منكوسا ، وهو ينظر بجملة أسافله وأعاليه معا ؟ وأيضا فلا يتم له التشبيه الذي عقد البيت لأجله ، وأيضا فالنكس قلب الأعلى أسفل لا عكسه الذي قرره هذا الراد وهو قلب الأسفل أعلى ، فذاك يسمى رفعا لا نكسا ; فلهذا عبر الشاعر في الرأس بمنكوس وفي الرجل بمرفوع ، ولو كان ما قرره هذا الراد كانت العبارة : فالإنسان ، أو فالرأس ، أي الإنسان ينظر مرفوعة أسافله ، وأيضا فجعل " منكوسا " حالا من الرأس يقدح فيه بأمرين : كونه من المبتدأ ، وأكثر النحاة على منعه ، وكونه يشعر بأن الإنسان إذا قام على الغدير يكون له حالتان : حالة يكون فيها منكوسا وحالة لا يكون فيها كذلك ، وليس الأمر كذلك ، بل لا يكون إلا منكوسا ، والأصل في الحال الانتقال ، فإذا جعل حالا من ضمير ينظر خلا من هذا القادح ، واستعمال الرأس هنا بمعنى الإنسان لا يمكن تصحيحه ، أما أولا فلفساد المعنى المراد من التشبيه الذي ساق الشاعر الكلام لأجله ، وأما ثانيا فلأن مقابلته بالرجل تأبى ذلك ، هذا هو المعول عليه هنا في إبطال ذلك . وأما عدم القرينة والتنظير ب " رأيت رأسا " فلا مدخل له هنا ، وأما قول القائل في جواب ذلك : صرح الأصوليون بعدم اشتراط الوضع في المجاز فكلام غير واقع موقعه ، ولا له تعلق بالمقصود ، وهذا البيت لا تؤخذ معرفته من علم الأصول ، بل من علم البلاغة وتوابعه ، وكذلك البيان والبديع والإنشاء والترسل ونقد الشعر :


            وللعلوم رجال يعرفون بها     وللدواوين كتاب وحساب



            التالي السابق


            الخدمات العلمية