الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                وأما النبوات والرسل : فليس لهؤلاء فيها كلام معروف ; لا نفيا ولا إثباتا . وأما المتأخرون فهم لما ظهرت الملة الحنيفية - الإبراهيمية التوحيدية - تارة بنبوة عيسى - لما ظهرت النصارى على مملكة الصابئين بأرض الشام ومصر والروم وغيرها - ثم بنبوة خاتم المرسلين وأظهر الله من نور النبوة شمسا طمست ضوء الكواكب وعاش السلف فيها برهة طويلة ثم خفي بعض نور النبوة ; فعرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة من الروم والفرس والهند في أثناء الدولة العباسية .

                ثم طلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم فعربت ودرسها الناس وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر وكان أكثر ما ظهر من علومهم الرياضية كالحساب والهيئة أو الطبيعة كالطب أو المنطقية فأما الإلهية : فكلامهم فيها نزر وهو مع نزارته ليس غالبه عندهم يقينا ; وعند المسلمين من العلوم الإلهية الموروثة عن خاتم المرسلين ما ملأ العالم نورا وهدى [ ص: 85 ] بل متكلموهم الذين ينسبون إلى البدع عندهم من العلم الإلهي بمقاييسهم المستخرجة أضعاف أضعاف أضعاف ما عند حذاق المتفلسفة .

                ثم بعد ذلك لما صار فيهم من يتحذق على طريقتهم في علم ما بعد الطبيعة كالفارابي وابن سينا ونحوهم وصنف ابن سينا كتبا زاد فيها بمقتضى الأصول المشتركة : أشياء لم يذكرها المتقدمون وسمي ذلك العلم الإلهي وتكلم في النبوات والكرامات ومقامات العارفين بكلام فيه شرف ورفعة بالنسبة إلى كلام المتقدمين .

                وإن كان عند العلوم الإلهية النبوية : فيه من القصور والتقصير والنفاق والجهل والضلال والكفر ما لا يخفى على من له أدنى بصيرة بالعلم والإيمان وإنما راج على من سلك طريق المتفلسفة ; لأنه قرب إليهم معرفة الله والنبوات والمعجزات والولاية بحسب أصول الصابئة الفلاسفة - لا بحسب الحق في نفسه - بما أشرق على جهالاتهم من نور الرسالة وبرهان النبوة .

                كما فعله نسطور النصراني الذي كان في زمن المأمون الذي تنسب إليه النسطورية في التثليث والاتحاد ; لكنه بما أضاء عليه من نور المسلمين أزال كثيرا من فساد عقيدة النصراني وبقي عليه منها بقايا عظيمة . وكذلك يحيى بن عدي النصراني لما تفلسف قرب مذهب النصارى في التثليث إلى أصول الفلاسفة في العقل والعاقل والمعقول .

                [ ص: 86 ] ولهذا الفلاسفة المحضة - الباقون على محض كلام المشائين - يرون أن ابن سينا صانع المليين لما رأوا من تقريبه وجهلوا فيما قالوا وكذبوا لم يصانع ولكن قال - بموجب الحق وبموافقة أصولهم العقلية - ما قاله من الحق الذي أقر به كما أن الفلاسفة الإلهيين المشائين وغيرهم متفقون على الإقرار بواجب الوجود وببقاء الروح بعد الموت وبأن الأعمال الصالحة تنفع بعد الموت ويخالفهم في ذلك فلاسفة كثيرون من الطبيعيين وغيرهم بل وبين الإلهيين من الفلاسفة خلاف في بعض ذلك حتى الفارابي وهو عندهم المعلم الثاني يقال : إنه اختلف كلامه في ذلك .

                فقال تارة ببقاء الأنفس كلها وتارة ببقاء النفوس العالمة دون الجاهلة . كما قاله في آراء المدينة الفاضلة وتارة كذب بالأمرين وزعم الضال الكافر : أن النبوة خاصتها جودة تخييل الحقائق الروحانية وكلامهم المضطرب في هذا الباب كثير ليس الغرض هنا ذكره .

                وإنما الغرض أن العلم الأعلى عندهم والفلسفة الأولى علم ما بعد الطبيعة وهو الوجود المطلق ولواحقه ; حتى إن من له مادة فلسفية من متكلمة المسلمين - كابن الخطيب وغيره - يتكلمون في أصول الفقه الذي هو علم إسلامي محض ; فيبنونه على تلك الأصول الفلسفية .

                كقول ابن الخطيب وغيره في أول أصول الفقه موافقة لابن سينا ومن قبله : العلوم الجزئية لا تقرر مبادئها فيها ; لئلا يلزم الدور فإن مبدأ العلم أصوله [ ص: 87 ] وهو لا يعرف إلا بعدها . فلو عرفت أصوله بمسائله المتوقفة على أصوله : للزم الدور بل توجد أصوله مسلمة ويقدر في علم أعلى منه حتى ينتهي إلى العلم إلا على الناظر في الوجود ولواحقه وهذا قالوه في مثل الطب والحساب إن الطبيب إنما هو طبيب ينظر في بدن الحيوان وأخلاطه وأعضائه ليحفظه صحته إن كانت موجودة ويعيدها إليه إن كانت مفقودة وبدن الحيوان جزء من المولدات في الأرض وكذلك أخلاطه .

                فأعم منه : النظر في المولدات من الأركان الأربعة ; الماء والهواء والنار والأرض .

                وأعم من ذلك النظر في الجسم المستحيل ثم في الجسم المطلق فما من علم يتعلق بموضوع ببعض الموجودات العينية أو العلمية إلا وأعم منه : ما يشترك هو وغيره فيه . فأما إدخال العلم بالله الذي هو أعلى العلوم وأشرفها في هذا وجعله جزءا من أجزاء العلم الأعلى - عندهم - الناظر في الوجود ولواحقه وكذلك ما يتبع ذلك من العلم بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فهذا منشأ الضلال القياسي .

                ويتبين ذلك من وجوه :

                أحدها : أن الله سبحانه هو الأعلى وهو الأكبر ولهذا : كان شعار أكمل الملل هو : الله أكبر في صلواتهم وأذانهم وأعيادهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : { يا عدي : ما يفرك أيفرك أن يقال لا إله إلا الله [ ص: 88 ] يا عدي فهل تعلم من إله إلا الله يا عدي ما يفرك أيفرك أن يقال : الله أكبر فهل تعلم شيئا أكبر من الله } وبهذا : تبين صواب من قال من الفقهاء إنه لا يجوز إبدال هذه الكلمة بقولنا : الله الكبير مع أن كشف هذا له موضع آخر .

                وقال : { { سبح اسم ربك الأعلى } فقال النبي صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم فالله هو الأعلى وهو الأكبر } والعلم مطابق للمعلوم فيجب أن تكون معرفته وعلمه : أكبر العلوم وأعلاها .

                الثاني : أن الله - سبحانه - هو الحق الموجود بنفسه وسائر ما سواه خلق من خلقه مربوب مقهور تحت قدرته وهو خالق الأشياء مسبب أسبابها فالعلم به أصل للعلم بما سواه وسبب كما أن ذاته كذلك والعلم بالسبب يفيد العلم بالمسبب .

                الثالث : معرفة أن الوجود المطلق هو المعرفة بالقدر المشترك بينه وبين ما سواه وهو علم بالحد الأوسط في قياسه على خليقته ومعلوم أن ذلك ليس فيه علم بحقيقته ولا بحقيقة ما سواه وإنما هو علم بوصف مشترك بينهما فكيف يكون العلم بوصف مشترك أعلى من العلم بحقيقة كل منهما وسائر ما يختص به عن غيره من الأنواع والأعيان ؟ .

                وكذلك معرفة الذات المطلقة وما هو كل من الأمور المشتركة : هو من هذا الباب .

                [ ص: 89 ] الرابع : أن الوجود المطلق والذات المطلقة ونحو ذلك : إما : أن يراد به الإطلاق الخاص وهو الذي لا يدخل فيه المقيد . كما يقال : الماء المطلق فهذا لا وجود له في الخارج عن العقل والذهن كما أن الوجود الكلي العام والذات الكلية العامة ; لا وجود لها في الخارج ; وإنما يعرض للحقائق هذا العموم وهذا الإطلاق من حيث هي معقولة في الأذهان لا من حيث هي ثابتة في الأعيان .

                فكيف يكون أعلى العلوم وأشرفها معلومه هو المثل الذهنية لا الحقائق الوجودية والمثل إنما هي تابعة لتلك وإلا لكانت جهلا لا علما ; وإما أن يراد به الإطلاق العام وهو ما لا يمنع شيئا من الدخول فيه وهو المطلق من كل قيد حتى عن الإطلاق . فالمطلق بهذا الاعتبار له وجود في الخارج على القول الصحيح .

                لكن لا يوجد مطلقا لا يوجد إلا معينا فإما موجود مطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له وهو المطلق الخاص فالمطلق العام لما كان يدخل فيه المقيد صح أن يوجد في الخارج فإذا كان الوجود المطلق ولواحقه ليس بموجود في الخارج مطلقا ولا يوجد في الخارج إلا معين امتنع أن يكون أعلى العلوم . إنما وجود معلومه في الأذهان لا في الأعيان .

                ولو جاز ترجيح العلم بالمثل الذهنية على الحقائق الخارجية : لجاز ترجيح المثل على الحقائق ولكان العلم بالرب والملائكة والنبيين : أفضل من ذات الرب والملائكة والنبيين وهذا لا يقوله عاقل .

                [ ص: 90 ] الخامس : أن القوم إنما أتوا من جهة أنهم بنوا أمرهم في علومهم جميعا على القياس ولا بد في القياس من قضية كلية وحد أوسط يكون أعم من الموصوف المحكوم عليه المبتدأ الموضوع .

                وما من حد وقضية إلا وثم ما هو أعم منه : مثل أن يقول الإنسان فأعم منه الحيوان فأعم منه الجسم النامي فأعم منه الجسم السفلي فأعم منه الجسم فأعم منه الجوهر فأعم منه الموجود سواء كان جنسا ذاتيا كما يقوله بعضهم أو وصفا عرضيا كما يقوله الحذاق .

                فلو قيل أعلى العلوم القياسية : العلوم بالموجود ولواحقه ; لكون معلومه أعم الموضوعات : لكان له مساغ ولعل هذا مرادهم .

                لكن العلم القياسي لا يفيد بنفسه معرفة حقيقة شيء من الأشياء الموجودة إلا إذا كان له نظير مماثل فيعرف أحد المثلين بنفسه والآخر بقياسه على نظيره وهذا القدر منتف في العلم بالله لا [ يوجد ] مثله ونظيره ثم قد عارضهم المتكلمون بما هو أعلى من الوجود وهو المعلوم والمذكور فقالوا : أعلى المعلوم وأعم الأسماء والحدود : المعلوم والمذكور ; لأنه يدخل فيه الموجود والمعدوم بنوعي الوجود : واجبه وممكنه ونوعي المعدوم ممكنه وممتنعه ; فكان يجب أن يقال العلم الأعلى الناظر في المعلوم ولواحقه وهذا أعم وأوسع وكون الشيء معلوما أمر يعرض له ; لا صفة ذاتية ; وكذلك كونه موجودا إذ هو في الحقيقة : كونه بحيث يجده الواجد هذا مقتضى الاسم : [ ص: 91 ] وإن عنى به بعضهم كونه حقا في نفسه فهذا ليس هو حقيقته التي هي هو كما قد قرر هذا في غير هذا الموضع .

                وأن من قال من المتفلسفة أو المتكلمة أن حقيقة الرب هي وجوده أو وجوب وجوده أو أنهم علموا حقيقته فقد أخطأ في ذلك خطأ قبيحا وأن هذا بمنزلة من قال حقيقة سائر الكائنات كونها ممكنة وهؤلاء بعداء عن الله محجوبون عن معرفته لم يعرفوا منه إلا صفة كلية من صفاته فظنوا أنهم عرفوا حقيقته .

                وبهذا يتبين لك أن من قال العلم الأعلى هو علم ما بعد الطبيعة وهو الناظر في الوجود ولواحقه ; فإنما حقيقة ذلك أنه أعلى في ذهن الطالب لمعرفة الله بالقياس على خلقه ; لا أنه أعلى في نفسه ; ولا أن معلومه أعلى ولا أعلى عند من عرف حقائق الموجودات ولا أعلى عند من عرف الله بالفطرة ; فضلا عمن عرفه بالشرعة ; فضلا عمن عرفه بالولاية ; فضلا عمن عرفه بالوحي والنبوة ; فضلا عمن عرفه بالرسالة فضلا عمن عرفه بالكلام ; فضلا عمن عرفه بالرؤية .

                فلما كان منتهى الفلاسفة الصابئية وأعلى علمهم : هو الوجود المطلق وكان أصل التجهم وتعطيل صفات الرب إنما هو مأخوذ عن الصابئة وكان هؤلاء الاتحادية في الأصل جهمية وأنه بما فيهم من النصرانية - المشاركة للصابئة صار بينهم وبين الصابئة نسب - صار معبودهم وإلههم هو [ ص: 92 ] الوجود المطلق وزعموا أن ذلك هو الله مضاهاة لما عليه خلق من قدماء الفلاسفة من تعطيل الصانع وإثبات الوجود المطلق حتى يصح قول فرعون : { وما رب العالمين } .

                وإن كان الفلاسفة المسلمون لا يوافقون على ذلك بل يقرون بالرب الذي صدر عنه العالم ; لكنهم بتعظيمهم للوجود المطلق صاروا متفقين متقاربين ومن تأمل كلام النصير الطوسي الصابئي الفيلسوف وكلام الصدر القونوي النصراني الاتحادي الفيلسوف وكلام الإسماعيلية في البلاغ الأكبر والناموس الأعظم - الذي يقول فيه : أقرب الناس إلينا الفلاسفة ليس بيننا وبينهم خلاف إلا في واجب الوجود فإنهم يقرون به ونحن ننكره - عرف ما بين هؤلاء من المناسبة .

                وكذلك المراسلة التي بين الصدر والنصير في إثبات النصير لواجب الوجود على طريقة الصابئة الفلاسفة وجعل الصدر ذلك هو الوجود المطلق لا المعين وأنه هو الله علم حقيقة ما قلته وعلم وجه اتفاقهم على الضلال والكفر وأن النصير أقرب من حيث اعترافه بالرب الصانع المتميز عن الخلق لكنه أكفر من جهة بعده عن النبوة والشرائع والعبادات . وأن الصدر أقرب من جهة تعظيمه للعبادات والنبوات والتأله على طريقة النصارى ; لكنه أكفر من حيث أن معبوده لا حقيقة له وإنما يعبد الوجود المطلق الذي لا حقيقة له في الخارج [ ص: 93 ] ولهذا كان الصدر أكفر قولا وأقل كفرا في عمله والنصير أكفر عملا وأقل كفرا في قوله وكلاهما كافر في قوله وعمله ; ولهذا : يظهر للعقلاء من عموم المسلمين من كلام الصدر أنه إفك وزور وغرور مخالف لما جاء به الرسول ; كما يظهر لهم من أفعال النصير أنه مروق وإعراض عما جاء به الرسول ; ولهذا : كان النصير أقرب إلى العلماء لأن في كلامه ما هو حق كما أن الصدر أقرب إلى العباد ; لأن في فعاله ما هو عبادة .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية