الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                فصل فقوله سبحانه : { والذي قدر فهدى } يتضمن أنه قدر ما سيكون للمخلوقات وهداها إليه . علم ما يحتاج إليه الناس والدواب من الرزق فخلق ذلك الرزق وسواه وخلق الحيوان وسواه وهداه إلى ذلك الرزق . وهدى غيره من الأحياء أن يسوق إليه ذلك الرزق .

                وخلق الأرض وقدر حاجتها إلى المطر وقدر السحاب وما يحمله من المطر . وخلق ملائكة هداهم ليسوقوا ذلك السحاب إلى تلك الأرض [ ص: 140 ] فيمطر المطر الذي قدره . وقدر ما نبت بها من الرزق وقدر حاجة العباد إلى ذلك الرزق . وهداهم إلى ذلك الرزق وهدى من يسوق ذلك الرزق إليهم .

                وقد ذكر المفسرون أنواعا من تقديره وهدايته : فروى ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما بالإسناد الثابت عن مجاهد في قوله : { قدر فهدى } قال : الإنسان للشقاوة والسعادة وهدى الأنعام لمراتعها .

                وكذلك رواه عبد بن حميد في تفسيره قال : هدى الإنسان للسعادة والشقاوة وهدى الأنعام لمراتعها . وقال حدثنا يونس عن شيبان عن قتادة : { قدر فهدى } قال : " لا والله ما أكره الله عبدا على معصية قط ولا على ضلالة ولا رضيها له ولا أمره ولكن رضي لكم الطاعة فأمركم بها ونهاكم عن معصيته " .

                ( قلت : قتادة ذكر هذا عند هذه الآية ليبين أن الله قدر ما قدره من السعادة والشقاوة كما قال الحسن وقتادة وغيرهما من أئمة المسلمين فإنهم لم يكونوا متنازعين . فما سبق من سبق تقدير الله وإنما كان نزاع بعضهم في الإرادة وخلق الأفعال .

                [ ص: 141 ] وإنما نازع في التقدير السابق والكتاب أولئك الذين تبرأ منهم الصحابة كابن عمر وابن عباس وغيرهما .

                وذكر قتادة أن الله لم يكره أحدا على معصية . وهذا صحيح فإن أهل السنة المثبتين للقدر متفقون على أن الله لا يكره أحدا على معصية كما يكره الوالي والقاضي وغيرهما للمخلوق على خلاف مراده يكرهونه بالعقوبة والوعيد . بل هو سبحانه يخلق إرادة العبد للعمل وقدرته وعمله وهو خالق كل شيء .

                وهذا الذي قاله قتادة قد يظن فيه أنه من قول القدرية وأنه لسبب مثل هذا اتهم قتادة بالقدر حتى قيل : إن مالكا كره لمعمر أن يروي عنه التفسير لكونه اتهم بالقدر .

                وهذا القول حق ولم يعرف أحد من السلف قال " إن الله أكره أحدا على معصية " .

                بل أبلغ من ذلك أن لفظ " الجبر " منعوا من إطلاقه كالأوزاعي والثوري والزبيدي وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهم . نهوا عن أن يقال " إن الله جبر العباد " وقالوا : إن هذا بدعة في الشرع وهو مفهم للمعنى الفاسد .

                [ ص: 142 ] قال الأوزاعي وغيره : إن السنة جاءت بـ " جبل " ولم تأت بـ " جبر " { فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأشج عبد القيس : إن فيك لخلقين يحبهما الله الحلم والأناة . فقال : أخلقين تخلقت بهما أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقين جبلت عليهما . قال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله } .

                وقال الزبيدي وغيره : إنما يجبر العاجز يعني الجبر الذي هو بمعنى الإكراه كما تجبر المرأة على النكاح . والله أجل وأعظم من أن يجبر أحدا يعني أنه يخلق إرادة العبد فلا يحتاج إلى إجباره .

                فالزبيدي وطائفة نفوا " الجبر " وكان مفهومه عندهم هذا .

                وأما الأوزاعي وأحمد بن حنبل وغيرهما فكرهوا أن يقال " جبر " وأن يقال " لم يجبر " لأن " الجبر " قد يراد به الإكراه والله لا يكره أحدا .

                وقد يراد به أنه خالق الإرادة كما قال محمد بن كعب : " الجبار هو الذي جبر العباد على ما أراد " . و " الجبر " بهذا المعنى صحيح .

                وقول مجاهد في قوله : { قدر فهدى } " هدى الإنسان للسعادة والشقاوة " يبين أن هذا عنده مما دخل في قوله : { قدر فهدى } [ ص: 143 ] أي هدى السعداء إلى السعادة التي قدرها وهدى الأشقياء إلى الشقاء الذي قدره .

                وهكذا قال مجاهد في قوله : { إنا هديناه السبيل } قال : السعادة والشقاوة .

                وقال عكرمة : سبيل الهدى . رواهما عبد بن حميد .

                وكذلك روى ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : { وهديناه النجدين } قال : الشقاوة والسعادة .

                وقد قال هو وجماهير السلف : { وهديناه النجدين } : أي الخير والشر . رواه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود . ثم قال : وروي عن علي بن أبي طالب وابن عباس في إحدى وشقيق بن سلمة وأبي صالح ومجاهد والحسن ومحمد بن كعب وعكرمة وشرحبيل بن سعيد وابن سنان الرازي والضحاك وعطاء الخراساني وعمرو بن قيس الملائي نحو ذلك .

                وروي عن محمد بن كعب القرظي قال : الحق والباطل .

                [ ص: 144 ] وهذا كلام مجمل فيه ما هو متفق عليه وهو أنه يبين للناس ما أرسله من الرسل ونصبه من الدلائل والآيات وأعطاهم من العقول طريق الخير والشر كما في قوله : { وأما ثمود فهديناهم } .

                وأما إدخال الهدى الذي هو الإلهام في ذلك بمعنى أنه هدى المؤمن إلى أن يؤمن ويعمل صالحا إلى أن يسعد بذلك وهدى الكافر إلى ما يعمله إلى أن يشقى بذلك فهذا منهم من يدخله في الآية كمجاهد وغيره ويدخله في قوله : { إنا هديناه السبيل } . وعكرمة وغيره يخرجون ذلك عن معنى هذه الآية وإن كانوا مقرين بالقدر .

                ومن قال : " هدى " بمعنى بين فقط فقد هدى كل عبد إلى نجد الخير والشر جميعا أي بين له طريق الخير والشر .

                ومن أدخل في ذلك السعادة والشقاوة يقول : في هذا تقسيم أي هذه الهداية عامة مشتركة وخص المؤمن بهداية إلى نجد الخير وخص الكافر بهداية إلى نجد الشر .

                ومن لم يدخل ذلك في الآية قد يحتجون بحديث من مراسيل الحسن قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : { يا أيها الناس : إنما هما النجدان نجد الخير ونجد الشر . فما يجعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير ؟ } .

                [ ص: 145 ] ويحتجون بأن إلهام الفاجر طريق الفجور لم يسمه هدى بل سماه ضلالا والله امتن بأنه هدى .

                وقد يجيب الآخر بأن يقول : هو لا يدخل في الهدى المطلق لكن يدخل في الهدى المقيد كقوله : { فاهدوهم إلى صراط الجحيم } وكما في لفظ البشارة قال : { فبشرهم بعذاب أليم } ولفظ الإيمان فقال : { يؤمنون بالجبت والطاغوت } .

                وهذان القولان في قوله : { فألهمها فجورها وتقواها } قيل : هو البيان العام وقيل : بل ألهم الفاجر الفجور والتقي التقوى .

                وهذا في تلك الآية أظهر لأن الإلهام استعماله مشهور في إلهام القلوب لا في التبيين الظاهر الذي تقوم به الحجة .

                وقد { علم النبي صلى الله عليه وسلم حصينا الخزاعي لما أسلم أن يقول : اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي } . ولو كان الإلهام بمعنى البيان الظاهر لكان هذا حاصلا للمسلم والكافر .

                قال ابن عطية : و { سوى } معناه عدل وأتقن حتى صارت الأمور مستوية دالة على قدرته ووحدانيته .

                وقرأ جمهور القراء { قدر } بتشديد الدال فيحتمل أن يكون [ ص: 146 ] من القدر والقضاء ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء .

                قلت : هما متلازمان لأن التقدير الأول يسمى تقديرا ; لأن ما يجري بعد ذلك يجري على قدره فهو موازن له ومعادل له .

                قال : وقرأ الكسائي وحده بتخفيف الدال فيحتمل أن يكون بمعنى القدرة ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة " .

                قلت : وهذا قول الأكثرين أنهما بمعنى واحد .

                قال ابن عطية : وقوله { فهدى } عام لوجوه الهدايات في الإنسان والحيوان . وقد خصص بعض المفسرين أشياء من الهدايات فقال الفراء : معناه هدى وأضل واكتفى بالواحد لدلالتها على الأخرى . قال وقال مقاتل والكلبي : هدى إلى وطء الذكور للإناث . وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي . وقال مجاهد : هدى الناس للخير والشر والبهائم للمراتع .

                قال ابن عطية : " وهذه الأقوال مثالات والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية " . وقد ذكر أبو الفرج بن الجوزي هذه الأقوال وغيرها فذكر [ ص: 147 ] سبعة أقوال : قدر السعادة والشقاوة وهدى للرشد والضلالة قاله مجاهد . وقيل : جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه قاله عطاء . وقيل : قدر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج قاله السدي . وقيل : قدرهم ذكرانا وإناثا وهدى الذكور لإتيان الإناث قاله مقاتل . وقيل : قدر فهدى وأضل فحذف " وأضل " لأن في الكلام ما يدل عليه حكاه الزجاج . وقيل : قدر الأرزاق وهدى إلى طلبها ; وقيل قدر الذنوب فهدى إلى التوبة حكاهما الثعلبي .

                قلت : القول الذي حكاه الزجاج هو قول الفراء وهو من جنس قوله : " إن نفعت وإن لم تنفع " ومن جنس قوله " سرابيل تقيكم الحر والبرد " . وقد تقدم ضعف مثل هذا ولهذا لم يقله أحد من المفسرين .

                والأقوال الصحيحة هي من باب المثالات كما قال ابن عطية .

                وهكذا كثير من تفسير السلف يذكرون من النوع مثالا لينبهوا به على غيره أو لحاجة المستمع إلى معرفته أو لكونه هو الذي يعرفه كما يذكرون مثل ذلك في مواضع كثيرة . كقوله : { ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد } وقوله : { وآخرين منهم } وقوله : { فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه } وقوله : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } [ ص: 148 ] وكذلك تفسير : { والشفع والوتر } و { وشاهد ومشهود } وغير ذلك وقوله : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } وأمثال ذلك كثير من تفسيرهم هو من باب المثال .

                ومن ذلك قولهم : إن " هذه الآية نزلت في فلان وفلان " فبهذا يمثل بمن نزلت فيه نزلت فيه أولا وكان سبب نزولها لا يريدون به أنها آية مختصة به كآية اللعان وآية القذف وآية المحاربة ونحو ذلك . لا يقول مسلم إنها مختصة بمن كان نزولها بسببه .

                واللفظ العام وإن قال طائفة إنه يقصر على سببه فمرادهم على النوع الذي هو سببه لم يريدوا بذلك أنه يقتصر على شخص واحد من ذلك النوع .

                فلا يقول مسلم إن آية الظهار لم يدخل فيها إلا أوس بن الصامت وآية اللعان لم يدخل فيها إلا عاصم بن عدي أو هلال بن أمية : وأن ذم الكفار لم يدخل فيه إلا كفار قريش ; ونحو ذلك مما لا يقوله مسلم ولا عاقل .

                فإن محمدا صلى الله عليه وسلم قد عرف بالاضطرار من دينه أنه مبعوث إلى جميع الإنس والجن والله تعالى خاطب بالقرآن جميع [ ص: 149 ] الثقلين كما قال : { لأنذركم به ومن بلغ } . فكل من بلغه القرآن من إنسي وجني فقد أنذره الرسول به . والإنذار هو الإعلام بالمخوف والمخوف هو العذاب ينزل بمن عصى أمره ونهيه .

                فقد أعلم كل من وصل إليه القرآن أنه إن لم يطعه وإلا عذبه الله تعالى وأنه إن أطاعه أكرمه الله تعالى .

                وهو قد مات فإنما طاعته باتباع ما في القرآن مما أوجبه الله وحرمه وكذلك ما أوجبه الرسول وحرمه بسنته . فإن القرآن قد بين وجوب طاعته وبين أن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وقال لأزواج نبيه {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة }

                التالي السابق


                الخدمات العلمية