الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                صفحة جزء
                قال : ومن أدلة المجاز ما زعم المستدلون له من أجود الاستدلال على النفاة وهو قوله تعالى { لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا } وقوله تعالى { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه } والصلوات في لغة العرب : إما الأدعية وإما الأفعال المخصوصة وكلاهما لا يوصف بالتهدم والجماد لا يتصف بالإرادة .

                فإن قيل : كان من لغة العرب تسمية المصلى صلاة وقد ورد في التفسير : { وأن المساجد لله } أعضاء السجود . والجدار وإن لم يكن له إرادة لكنه لا يستحيل من الله فعل الإرادة فيه من غير إحداث أبنية مخصوصة .

                فيقال : هذا دعوى عن الوضع : إذ لا يعلم أن الصلاة في الأصل [ ص: 493 ] إلا الدعاء وزيد في الشرع أو نقل إلى الأفعال المخصوصة فأما الأبنية فلا يعلم ذلك من نقل عن العرب وإن سميت صلوات فإنما هو استعارة ; لأنها مواضع الصلوات . ولو خلق الله في الجدار إرادة لم يكن بها مريدا كما لو خلق فيه كلاما لم يكن به متكلما .

                وأما قوله : إن كلمة الله المراد بها عيسى نفسه : فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب كقولهم : هذا درهم ضرب الأمير . ومنه قوله : { هذا خلق الله } ومنه تسمية المأمور به أمرا والمقدور قدرة والمرحوم به رحمة والمخلوق بالكلمة كلمة لكن هذا اللفظ إنما يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد كقوله : { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين } فبين أن الكلمة هو المسيح .

                ومعلوم أن المسيح نفسه ليس هو الكلام { قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } فبين لما تعجبت من الولد أنه سبحانه يخلق ما يشاء ; إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون فدل ذلك على أن هذا الولد مما يخلقه الله بقوله : { كن فيكون } ولهذا قال أحمد بن حنبل : عيسى مخلوق بالكن ; ليس هو نفس الكن [ ص: 494 ] ولهذا قال في الآية الأخرى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون } فقد بين مراده أنه خلق بكن لا أنه نفس كن ونحوها من الكلام .

                وكذلك قوله : { الحج أشهر معلومات } قد علم أنه لم يرد أن الأفعال أزمنة وإنما أراد الخبر عن زمان الحج ولهذا قال بعدها . { فمن فرض فيهن الحج } والحج المفروض فيهن ليس هو الأشهر ; فعلم أن قوله : { أشهر } لم يرد به نفس الفعل بل بين مراده بكلامه لما بين [ أن ] اللفظ لا يدل على أن الأفعال أزمنة .

                وكذلك قوله : { ولكن البر من اتقى } لما قال : { وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى } دل الكلام على أن مراده ولكن البر هو التقوى فلا يوجد مثل هذا الاستعمال إلا مع ما يبين المراد وحينئذ فهو مستعمل مع قيد يبين المراد هنا ; كما هو مستعمل في موضع آخر مع قيد يبين المراد هناك وبين المعنيين اشتراك وبينهما امتياز بمنزلة الأسماء المترادفة والمتباينة كلفظ الصارم والمهند والسيف ; فإنها تشترك في دلالتها على الذات فهي من هذا الوجه كالمتواطئة ويمتاز كل منها بدلالته على معنى خاص فتشبه المتباينة . وأسماء الله وأسماء رسوله وكتابه من هذا الباب .

                [ ص: 495 ] وكذلك ما يعرف باللام لام العهد ينصرف في كل موضع إلى ما يعرفه المخاطب إما بعرف متقدم ; وإما باللفظ المتقدم ; وإن كان غير هذا المراد ليس هو ذاك لكن بينهما قدر مشترك وقدر فارق كقوله تعالى : { إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا } { فعصى فرعون الرسول } وقال تعالى { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا } ففي الموضعين لفظ الرسول ولام التعريف لكن المعهود المعروف هناك هو رسول فرعون وهو موسى عليه السلام والمعروف المعهود هنا عند المخاطبين بقوله : { لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم } هو محمد صلى الله عليه وسلم وكلاهما حقيقة والاسم متواطئ وهو معرف باللام في الموضعين لكن العهد في أحد الموضعين غير العهد في الموضع الآخر وهذا أحد الأسباب التي بها يدل اللفظ : فإن لام التعريف لا تدل إلا مع معرفة المخاطب بالمعهود المعروف .

                وكذلك اسم الإشارة ; كقوله : هذا وهؤلاء وأولئك : إنما يدل في كل موضع على المشار إليه هناك فلا بد من دلالة حالية أو لفظية تبين أن المشار إليه غير لفظ الإشارة فتلك الدلالة لا يحصل المقصود إلا بها وبلفظ الإشارة كما أن لام التعريف لا يحصل المقصود إلا بها [ ص: 496 ] وبالمعهود ومثل هذه الدلالة لا يقال : إنها مجاز وإلا لزم أن تكون دلالة أسماء الإشارة بل والضمائر ولام العهد وغير ذلك مجازا وهذا لا يقوله عاقل وإن قاله جاهل دل على أنه لم يعرف دلالة الألفاظ وظن أن الحقائق تدل بدون هذه الأمور التي لا بد منها في دلالة اللفظ بل لا يدل شيء من الألفاظ إلا مقرونا بغيره من الألفاظ وبحال المتكلم الذي يعرف عادته بمثل ذلك الكلام وإلا فنفس استماع اللفظ بدون المعرفة للمتكلم وعادته لا يدل على شيء ; إذا كانت دلالتها دلالة قصدية إرادية تدل على مما أراد المتكلم أن يدل بها عليه لا تدل بذاتها . فلا بد أن تعرف ما يجب أن يريده المتكلم بها ; ولهذا لا يعلم بالسمع ; بل بالعقل مع السمع .

                ولهذا كانت دلالة الألفاظ على معانيها سمعية عقلية تسمى الفقه ; ولهذا يقال لمن عرفها : هو يفقه ولمن لم يعرفها : لا يفقه . قال تعالى { فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا } وقال تعالى : { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } وقال : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } .

                [ ص: 497 ] ولهذا كان المقصود من أصول الفقه : أن يفقه مراد الله ورسوله بالكتاب والسنة .

                تم بحمد الله وتوفيقه لا إله إلا هو وصلى الله على نبيه وحبيبه وأفضل خلقه محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل .

                التالي السابق


                الخدمات العلمية