الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          نموذج من ترجمة تركية :

                          إنني بعد كتابة ما ذكر تذكرت أن عند بعض معارفي ترجمة تركية للقرآن فاستعرتها منه ، فإذا هي ترجمة جميل بن سعيد ، وسيأتي ذكرها - وإذا فيها من النقص والحذف والخطأ فوق ما كنت أظن ، ويظن أنه أخذها من الترجمة الفرنسية ; لأنه هو لا يعرف العربية ، وهذه جرأة قبيحة لا تصدر عن رجل يؤمن بالله وكتابه ورسوله ، وتدل على سوء نية هؤلاء الناس في الترجمة ، وكون غرضهم منها العبث بدين الإسلام وتنفير الترك منه . وفتح أبواب الطعن لهم فيه ، وقد راجعنا فيها ما ذكرنا من أسماء يوم القيامة فوجدناه يذكر ألفاظها [ ص: 299 ] العربية ويفسرها بيوم القيامة . وأما كنايات الوقاع فحذف منها قوله تعالى : فلما تغشاها ( 7 : 189 ) واكتفى بكلمة بما يدل على الحمل .

                          وترجم الملامسة بما معناه وإذا وجدتم بالمناسبات الجنسية مع النساء فتنظفوا . وفيه ما فيه . وأما الحرث فترجمه بكلمة " تارلا " وهي الأرض المعدة لزرع الحبوب دون المشجرة ، ومن المعلوم أن الكناية تجامع الحقيقة ، فإحلال الرفث إلى النساء في ليالي رمضان يدل بمفهومه على حظر الرفث بالقول على الصائم ، وهو المعنى الحقيقي للكلمة كما يدل على تحريم الفعل المكنى عنه . والترجمة التركية لا تفيد الدلالتين .

                          وترجم قوله تعالى : لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ( 4 : 43 ) إلخ . بما معناه : لا تصلوا في حال سكركم بل انتظروا أن تجيئوا إلى حال يمكنكم أن تفهموا فيها ما تقولون - ولا تعبدوا في حال كونكم جنبا بل انتظروا الغسل . وهذه ترجمة تفسيرية باطلة من وجوه كما يرى القارئ وليس فيها تفريق بين الحالين ولا بين الحكمين .

                          وأما قوله تعالى في الظالمين : إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء ( 14 : 42 ، 43 ) فقد ترجمه بما معناه الحرفي : يمهلهم الله إلى يوم يعطفون فيه أنظارهم إلى السماء بصورة كاملة ، وستبقى قلوبهم فارغة وأنظارهم ثابتة ، وهم يسرعون بعجلة رفعت رؤوسهم اهـ . فزاد على الأصل توجيه النظر إلى السماء وقوله : " بصورة كاملة " أراد به تفسير شخوص البصر ، وهو لا يؤدي معناه ولا يصور ذلك الوصف البليغ المؤثر للأبصار الشاخصة ، والرءوس المقنعة ، والأعناق المهطعة ، بل لم يذكر الرؤوس والأعناق ألبتة . وإذا كان بهذه الدركة من العجز مع استعانته بالألفاظ العربية ، فكيف تكون ترجمتهم لكتاب الله تعالى إذا حاولوا أن تكون تركية خالصة خالية من الألفاظ العربية كما يطلب غلاة غواتهم ؟ ! .

                          هذا وإن في هذه الترجمة من الغلط وتحريف المعاني والزيادة والنقصان ما لا يعقل له المطلع عليه سببا إلا تعمد الإضلال ; لأن الجهل وحده لا يهبط بهذا المترجم إلى هذا الدرك الأسفل مع ادعائه الوقوف عند حدود التعبير عن مدلول اللفظ العربي بلفظ تركي ، كوظيفة مترجمي المحاكم القضائية .

                          فمن التحريف المخل الدال على سوء النية ترجمة قوله تعالى : وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة ( سورة يونس آية 87 ) .

                          اتفق مفسروا السلف والخلف على أن معنى اتخاذ بيوتهم قبلة أن يصلوا فيها ، فكأنه قال : اجعلوها مساجد ، وهو الصحيح - أو أن يوجهوها إلى القبلة - قيل : هي الكعبة . وقيل [ ص: 300 ] بيت المقدس ، إلا ما ذكره بعضهم من احتمال جعلها متقابلة متقاربة ولكن المترجم التركي ترجمها بقوله : " قومكزا يجون مصرده خانه لر إنشا ايديكز . ويوتلريني قبلة طرفنه توجيه ايديكز " أي أنشئوا في مصر بيوتا لقومكم ووجهوا أصنامها لجهة القبلة ( ؟ ؟ ) فما قول العالم الإسلامي في ترجمته للقرآن ، تعلم الترك أن الله تعالى أجاز لبني إسرائيل اتخاذ الأصنام . والعياذ بالله تعالى ! ! .

                          وليس هذا هو الغلط الوحيد في ترجمة هذه الآية الكريمة بل هو الأفحش ، وفيها أيضا أنه ترجم تبوأ البيوت وهو غلط ، وإنما معناه سكناها .

                          ومن الحذف والإسقاط أنه أسقط من ترجمة سورة البقرة قوله تعالى : ثم استوى إلى السماء ( 2 : 29 ) وأسقط ذكر المن والسلوى من الآية 57 منها - وأسقط وصف القرآن بالقيم من أول سورة الكهف ، والأمر بالسجود والاقتراب من آخر سورة العلق . . وغير ذلك مما يشق إحصاؤه .

                          نعم قد بلغنا أن رئيس الأمور الدينية في الجمهورية التركية قد أعلن أن هذه الترجمة مملوءة بالأغلاط فلا يجوز الاعتماد عليها ، ولكن هذه الحكومة لم تجمع نسخها وتمنع استعمالها وطبعها فهي منتشرة ، وبلغنا أنها ألفت لجنة لترجمة القرآن . أي مسلم يعتمد عليها وعلى لجنتها في علم يعده المسلمون العارفون بالإسلام جناية عليه وهدما له ؟ .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية