الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
صفحة جزء
النوع الخامس والعشرون

علم مرسوم الخط

ولما كان خط المصحف هو الإمام الذي يعتمده القارئ في الوقف والتمام ، ولا [ ص: 6 ] [ ص: 7 ] [ ص: 8 ] [ ص: 9 ] [ ص: 10 ] يعدو رسومه ، ولا يتجاوز مرسومه ; قد خالف خط الإمام في كثير من الحروف والأعلام ، ولم [ ص: 11 ] يكن ذلك منهم كيف اتفق ; بل على أمر عندهم قد تحقق ، وجب الاعتناء به والوقوف على سببه .

ولما كتب الصحابة المصحف زمن عثمان رضي الله عنه اختلفوا في كتابة التابوت ( البقرة : 248 ) ، فقال زيد : التابوه ، وقال النفر القرشيون : التابوت ، وترافعوا إلى عثمان ، فقال : اكتبوا التابوت ، فإنما أنزل القرآن على لسان قريش .

قال ابن درستويه : " خطان لا يقاس عليهما خط المصحف وخط تقطيع العروض " .

وقال أبو البقاء في كتاب اللباب : ذهب جماعة من أهل اللغة إلى كتابة الكلمة على لفظها إلا في خط المصحف ; فإنهم اتبعوا في ذلك ما وجدوه في الإمام ، والعمل على الأول .

فحصل أن الخط ثلاثة أقسام : خط يتبع به الاقتداء السلفي ، وهو الرسم المرعي في المصحف ، وخط جرى على ما أثبته اللفظ وإسقاط ما حذفه ، وهو خط العروض ، فيكتبون التنوين ويحذفون همزة الوصل ، وخط جرى على العادة المعروفة ; وهو الذي يتكلم عليه النحوي .

[ ص: 12 ] واعلم أن للشيء في الوجود أربع مراتب : ( الأولى ) حقيقته في نفسه . ( والثانية ) مثاله في الذهن . وهذان لا يختلفان باختلاف الأمم . ( والثالثة ) اللفظ الدال على المثال الذهني والخارجي . ( والرابعة ) الكتابة الدالة على اللفظ . وهذان قد يختلفان باختلاف الأمم ، كاختلاف اللغة العربية والفارسية ، والخط العربي والهندي ; ولهذا صنف الناس في الخط والهجاء ; إذ لا يجري على حقيقة اللفظ من كل وجه .

وقال الفارسي : لما عمل أبو بكر بن السراج كتاب الخط والهجاء قال لي : اكتب كتابنا هذا ، قلت له : نعم إلا أني آخذ بآخر حرف منه ، قال : وما هو ؟ قلت : قوله : ومن عرف صواب اللفظ ، عرف صواب الخط .

قال أبو الحسين بن فارس في كتاب فقه اللغة : يروى أن أول من كتب الكتاب العربي والسرياني والكتب كلها آدم عليه السلام قبل موته بثلاثمائة سنة ، كتبها في طين وطبخه ، فلما أصاب الأرض الغرق وجد كل قوم كتابا فكتبوه ، فأصاب إسماعيل الكتاب العربي ، وكان ابن عباس يقول : أول من وضع الكتاب العربي إسماعيل عليه السلام . قال : والروايات في [ ص: 13 ] هذا الباب كثيرة ومختلفة .

والذي نقوله : إن الخط توقيفي ، لقوله تعالى : علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم ( العلق : 4 ، 5 ) ، وقال تعالى : ن والقلم وما يسطرون ( القلم : 1 ) وليس ببعيد أن يوقف آدم وغيره من الأنبياء عليهم السلام على الكتاب .

وزعم قوم أن العرب العاربة لم تعرف هذه الحروف بأسمائها ، وأنهم لم يعرفوها نحوا ولا إعرابا ولا رفعا ولا نصبا ولا همزا .

ومذهبنا : أن أسماء هذه الحروف داخلة في الأسماء التي علم الله تعالى آدم عليه السلام ، قال : وما اشتهر أن أبا الأسود أول من وضع العربية ، وأن الخليل أول من وضع العروض ، فلا ننكره ، وإنما نقول : إن هذين العلمين كانا قديمين ، وأتت عليهما الأيام ، وقلا في أيدي الناس ، ثم جددهما هذان الإمامان .

ومن الدليل على عرفان القدماء ذلك كتابتهم المصحف على الذي يعلله النحويون في ذوات الواو والياء ، والهمز والمد والقصر ، فكتبوا ذوات الياء بالياء ، وذوات الواو بالألف ، ولم يصوروا الهمزة إذا كان ما قبلها ساكنا ، نحو ( الخبء ) ( النمل : 25 ) والـ ( دفء ) ( النحل : 5 ) والـ ( ملء ) ( آل عمران : 92 ) فصار ذلك حجة ، وحتى كره بعض العلماء ترك اتباع المصحف .

وأسند إلى الفراء قال : اتباع المصحف إذا وجدت له وجها من كلام العرب ، وقراءة القراء أحب إلي من خلافه .

وقال أشهب : سئل مالك رحمه الله : هل تكتب المصحف على ما أخذته الناس من [ ص: 14 ] الهجاء ؟ فقال : لا ; إلا على الكتبة الأولى . رواه أبو عمرو الداني في المقنع ، ثم قال : ولا مخالف له من علماء الأمة .

وقال في موضع آخر : سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والألف : أترى أن تغير من المصحف إذا وجدا فيه كذلك ؟ فقال : لا . قال أبو عمرو : يعني الواو والألف المزيدتين في الرسم لمعنى ، المعدومتين في اللفظ ، نحو : " " أولوا الألباب " " ( البقرة : 269 ) ،وأولات ( الطلاق : 4 ) ، و " " الربوا " " ( البقرة : 275 ) ، ونحوه .

وقال الإمام أحمد رحمه الله : تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في ياء أو واو أو ألف أو غير ذلك .

قلت : وكان هذا في الصدر الأول ، والعلم حي غض ، وأما الآن فقد يخشى الإلباس ; ولهذا قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام : لا تجوز كتابة المصحف إلا على الرسوم الأولى باصطلاح الأئمة ; لئلا يوقع في تغيير من الجهال ، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه ; لئلا يؤدي إلى دروس العلم ، وشيء أحكمته القدماء لا يترك مراعاته لجهل الجاهلين ; ولن تخلو الأرض من قائم لله بالحجة .

وقد قال البيهقي في شعب الإيمان : من كتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على حروف الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف ، ولا يخالفهم فيها ، ولا يغير مما كتبوه شيئا ; فإنهم أكثر علما ، وأصدق قلبا ولسانا ، وأعظم أمانة منا ; فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكا عليهم . وروى بسنده عن زيد ، قال : القراءة سنة . قال سليمان بن داود [ ص: 15 ] الهاشمي : يعني ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع . قال : وبمعناه بلغني عن أبي عبيد في تفسير ذلك : وترى القراء لم يلتفتوا إلى مذهب العربية في القراءة إذا خالف ذلك خط المصحف ، واتباع حروف المصاحف عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحد أن يتعداها .

التالي السابق


الخدمات العلمية