باب الرحمة.. المعركة المتجددة لتقسيم الأقصى

18/10/2023| إسلام ويب

على غير المتوقع، عاد اسم باب الرحمة لتصدّر المشهد في المسجد الأقصى المبارك، فلم يكد صباح اليوم الثاني من عيد الفطر يبدأ حتى فوجئ المصلون في المسجد الأقصى بالقوات الإسرائيلية تقتحم باب الرحمة وتقطع أسلاك الكهرباء فيه وتدمر بنيته التحتية التي أُصلحت حديثًا في مشهد كان مستغربًا نظرًا لمرور 4 سنوات على إعادة افتتاح المصلى بعد أحداث "هبة باب الرحمة" عام 2019، الأمر الذي أثار تساؤلات كثيرة عن أسباب هذه الهجمة الإسرائيلية في هذا الوقت بالذات.

الواقع أن قضية باب الرحمة لم تنته فعليا لدى الاحتلال على الرغم من مرور أكثر من 4 سنوات على افتتاحه، فشرطة الاحتلال دأبت طوال هذه السنوات على اقتحام المصلى بانتظام، وهي حريصة على دخول المكان بالأحذية دون أدنى احترام لتثبيت حقيقة عدم اعترافها بكونه مصلى رغم موقف المجلس الأعلى للأوقاف الإسلامية في القدس، الذي أكد أكثر من مرة أن هذا المكان يعدّ أحد مصليات المسجد الأقصى المبارك، وأن المجلس يتعامل معه على هذا الأساس.

ما حدث أخيرًا أكد أن إسرائيل لم تنس قضية الباب بعد، وأنها تريد إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل أحداث فبراير/شباط 2019، حين أنهى المقدسيون إغلاقًا إسرائيليا كاملًا لباب الرحمة امتد 16 عامًا، بدأ مطلع عام 2003 حين أعلنت سلطات الاحتلال إغلاق لجنة التراث الإسلامي التي كانت تتخذ المكان مقرا لها منذ 10 سنوات في ذلك الوقت، ونسي أمر باب الرحمة تقريبًا طوال هذه السنوات، لتأتي الشرطة الإسرائيلية وتقرر عام 2019 تغيير أقفال الباب في إشارة إلى إعلان سيطرتها عليه، وذلك أدى إلى انفجار الأوضاع في القدس وإعلان الشباب المقدسي عزمه فتح المصلى مرة أخرى، وهذا ما حدث يوم 22/2/2019.

منذ ذلك الوقت بدأت الحرب الفعلية على ملكية المصلى، "فإسرائيل" كانت ترى في هذا المكان أملًا لبدء تنفيذ رؤيتها في تقسيم المسجد الأقصى المبارك بين المسلمين واليهود، وذلك باعتبار المكان "منسيا" مدة 16 عامًا، تحولت فيها المنطقة المحاذية لباب الرحمة إلى مركز ثابت لمستوطني جماعات المعبد المتطرفة، الذين يقيمون طقوسهم ودروسهم الدينية في المكان دون السماح للمسلمين من الاقتراب منهم، ولذلك فقد كان من الطبيعي أن يكون تحويل باب الرحمة إلى كنيسٍ فكرةً مطروحةً على طاولة الحكومة الإسرائيلية بانتظار اللحظة المناسبة لتطبيقها كما حدث عند تقسيم المسجد الإبراهيمي في الخليل عام 1994.

ولكن ما حدث كان عكس كل التوقعات، ففتح المصلى مرةً أخرى، ولم تفلح أي محاولةٍ لإعاقة ذلك أو منع فتحه حتى باعتقال الحراس الذين كانوا يفتحونه يوميا، وتقدم المسلمون خطوات في هذا الاتجاه بإقدام الشبان المقدسيين عام 2021 على تجهيز مستلزمات المصلى الداخلية كافة من فرش وفواصل خشبية وغيرها مستغلين أحداث الحرب ذلك العام، ثم يتقدم المقدسيون خطوةً أخرى في شهر رمضان عام 2022 بإزالة نقطة الحراسة التي أقامتها الشرطة الإسرائيلية عام 2018 فوق باب الرحمة، ثم يجهزون أرضية الموقع لاحقًا لربطه مع المصلى المرواني وتحقيق وحدةٍ لطالما حاولت إسرائيل منعها بين مصليات المسجد الأقصى المتباعدة في الجهة الشرقية.
تحت هذه التطورات، كانت الضغوط تزداد على الحكومة الإسرائيلية من قبل الجماعات الدينية المتطرفة التي ترى أن إنجازاتها في المنطقة الشرقية في المسجد الأقصى تكاد تضيع هباءً، وهذا ما حدا بحكومة نتنياهو الحالية إلى اعتبار أن معركتها في هذه البقعة مصيرية لارتباطها بتأييد هذه القوى اليمينية المتشددة لها، وخاصة وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير.
إيتمار بن غفير يحاول اليوم تقديم نفسه بصورة المنقذ الوحيد لليمين الديني المتطرف في "إسرائيل"، وهو في ذلك يحاول القفز فوق ظهر نتنياهو ليظهر أنه خليفته القوي بل الأقوى من نتنياهو نفسه، وهو لا يخفي حقيقة طموحاته السياسية لتولّي رئاسة الحكومة في إسرائيل، ولذلك فإنه يزايد على نتنياهو في كل ما يتعلق بالمسجد الأقصى بالذات. ففي الوقت الذي كانت فيه المحكمة الإسرائيلية العليا تجدد في شهر يوليو/تموز من كل عام قرارها بإغلاق مصلى باب الرحمة، فقد استبق بن غفير تجديد المحكمة الإسرائيلية قرارها السنوي هذا العام بإبلاغ دائرة الأوقاف الإسلامية قراره بإغلاق الباب فورًا بصفته وزير الأمن القومي، وذلك قبل حتى أن يبدأ شهر رمضان المبارك!.

ويبدو أن بن غفير كان ينوي من هذه الخطوة اختبار ردود الفعل على قراره قبل البدء بتنفيذه بعد نهاية رمضان لتجهيز الأرضية في شهر يوليو/تموز قبيل تجديد المحكمة قرار الإغلاق، فيظهر بذلك بمظهر الرجل الصلب القوي الوحيد القادر على تنفيذ قرار المحكمة وإغلاق باب الرحمة.

وبن غفير في هذا الأمر يحاول معالجة مسألة الباب من منطق القوة المطلقة التي يرى أنه يتمتع بها في إدارة شؤون شرطة الاحتلال في المسجد الأقصى، لكنه يغفل حقيقةً مهمة، هي أن الجهات الأمنية الإسرائيلية لم تسلم له برؤيته الرعناء للأوضاع في المسجد الأقصى والقدس، وإمكانية أن يشعل هذا المكان حربًا لا طاقة لإسرائيل بخوضها وتحمل خسائرها، خاصةً وهي اليوم في أضعف حالاتها من الناحية المجتمعية المنقسمة والمتشظية. فالرعونة في التعامل مع قضية بهذه الحساسية أدت في الماضي إلى اضطرابات واسعة يرى بعض عقلاء السياسة اليوم في "إسرائيل" أنها في غِنى عنها في هذا الوقت الحرج بالذات. ولم تنقطع أو تغب الأسباب والظروف التي أدت إلى مثل تلك الاضطرابات في ما يتعلق بالمسجد الأقصى لا على المستوى الفلسطيني المحلي ولا على المستوى العربي والإسلامي ولا حتى على المستوى الدولي الذي لا يستطيع مساندة إسرائيل عندما يتعلق الأمر بهذا الموقع.

السيناريوهات المحتملة
والواقع أن محاولة إغلاق الباب ستؤدي إلى سيناريو من اثنين:

الأول: أن يفشل بن غفير تمامًا في مسعاه لإغلاق الباب وينجح بالمقابل في حال إصراره وتعنته في ذلك في إعادة إشعال المنطقة برمتها دون أن يدري. فمسألة فتح مصلى باب الرحمة أصبحت لدى المسلمين في القدس وخارجها قضية رأي عام من الصعوبة بمكانٍ أن تنتهي بهذه البساطة، فالمقدسيون شعروا بأنهم انتصروا في هبة باب الرحمة عام 2019 انتصارًا حقيقيا، وأي محاولةٍ لسحب هذا الانتصار من تحت أقدامهم قد يعني إشعال غضب شعبي عارم لا يمكن ل"إسرائيل" ولا غيرها التحكم به، لأن الشعب في القدس ليس تابعًا لأي فصيل أو جسم سياسي فلسطيني أو غير فلسطيني بحيث يمكن توقع حركته. وإرهاصات هذا الغضب والحراك الشعبي واضحة تمامًا في الأفق، فالمقدسيون أثبتوا غير مرةٍ أن الاقتراب من المسجد الأقصى المبارك لا يمكن أن يمر من دون ثمن.

الثاني: أن يتمكن من إغلاق باب الرحمة دون ضجة تذكر كما يرجو هو وأقطاب اليمين الإسرائيلي المتطرف، وذلك سيفتح الباب واسعًا لتسريع تقسيم المسجد الأقصى واقتطاع هذا الجزء تمامًا من المسجد قبل أن يتنبه المسلمون إلى أبعاد ما يحدث، ولا أحسب هذه العملية -في حال نجاح بن غفير- تستغرق أكثر من بضعة شهور فقط. وعلى الرغم من أن الصمت الشعبي في هذه الحالة مستبعد، فينبغي الإشارة إلى خطورة هذا السيناريو، وينبغي هنا التنبيه إلى وجوب بقاء الضمير الشعبي في القدس وما حولها منتبهًا لما يريده بن غفير وأقطاب اليمين الإسرائيلي، فالمسألة تتجاوز باب الرحمة إلى تقسيم المسجد ككل، وتقسيم المسجد الأقصى نفسه لن يكون في الحقيقة سوى نقطة البداية للسيطرة الإسرائيلية التامة عليه.

www.islamweb.net