دائرة الموت التي لا يراها اليمين الإسرائيلي

27/09/2004| إسلام ويب

بعد العملية التي وقعت في بئر السبع منذ بضعة أسابيع، كان على حكومة اليمين في "إسرائيل" أن تقنع نفسها بأن دائرة الموت التي تسعى إلى توسيعها باستمرار في كل بقعة من الأرض الفلسطينية، ما كانت لتبقى موجهة إلى طرف واحد، مهما كانت قسوة العدوان الذي تصبه على الشعب الفلسطيني بكل وسائل القتل والحصار التي تملكها، وفي ظل التشجيع والدعم الذي تحصل عليه من الإدارة الأميركية، التي تعتبر ممارسات العدوان الإسرائيلي جزءاً من حملتها ضد الإرهاب، التي اختارت كيف توجهها، حتى تصب في صالح "إسرائيل".

لكن حكومة اليمين في "إسرائيل"، تصورت أن فترة الهدوء التي استمرت بضعة شهور، بعد الضربات القاسية التي أوقعتها بقيادات المقاومة، قد أنهت روح المقاومة، وجعلت حالة من الاستسلام تسود الأوساط الشعبية التي تتعرض للعدوان، كما سادت أوساطاً سياسية ترى في الهدوء ما يصب في مصلحتها، رغم تعارض هذه المصلحة المؤقتة مع الطموحات المستقبلية للشعب الفلسطيني في كثير من الأوقات.

ومن منطلق القدرة على لجم المقاومة التي ترفض العدوان، وتعمل على مقاومته بما يتاح أمامها من وسائل، تصورت حكومة اليمين في "إسرائيل" أنها قادرة على التصرف بمستقبل المنطقة كما تريد، وبالرغم من الخلافات التي تدور بين متطرفين يمينيين في الحكومة والشارع، ومتطرفين أكثر تطرفاً، إلا أن الهدف الذي يسعى إليه اليمين كله هو السيطرة التامة على الأرض الفلسطينية، والتحكم بمقدرات الشعب الفلسطيني، وتحجيم طموحاته داخل حدودها الدنيا، التي تحوله إلى شعب سجين في أرضه المجزأة، يعمل في خدمة الاحتلال، أو يرحل ليخلي أرضه للاحتلال.

خلاف بين الأساليب

ما يعلن عنه من صراع داخل اليمين الحاكم، ليس سوى خلاف بين الأساليب، في الوصول إلى الهدف النهائي، وهو السيطرة على التراب الفلسطيني كاملا: فهناك وجهة النظر التي يقودها رئيس الحكومة، والتي تقول :إن الخروج من غزة، مع إبقائها تحت الحصار، هو وسيلة للتحكم ببقية الأرض الفلسطينية، وإحكام الحصار حول الشعب الفلسطيني داخل ما يتبقى له من الجيوب الصغيرة التي لا يصل إليها الاستيطان، ولا يبتلعها جدار الفصل العنصري، ربما لتلحق غزة بعد حين بالواقع الذي يتم إنتاجه في الضفة الغربية، أو لتبقى مع كثافتها السكانية العالية، وفقر حالها، سجينة منطقة تتمنى الحكومات الإسرائيلية منذ زمن بعيد، أن تغرق في البحر.

وهذا الاتجاه يحسب الحساب لمجموعة من الوقائع التي حاول تطويعها بانسحاب صوري من غزة، من أجل التمركز وتوسيع الاستيطان في الضفة: إنه يرى أن العالم يصر على الانسحاب الإسرائيلي من أجل إقامة دولة فلسطينية إلى جانب "إسرائيل"، وحتى لو لم يضغط هذا العالم بقوة، نتيجة للموقف الأميركي المنحاز، إلا أن موضوع الدولة بات أمراً غير قابل للنفي، وسوف يتحقق ذات زمن، خاصة حين تتحول السياسة الأميركية لتصبح في الصالح الأميركي، لا منقادة إلى الصالح الإسرائيلي وحده، كما يحدث الآن، وما يمكن العمل تجاهه، في موضوع الدولة الفلسطينية، هو تحجيم هذه الدولة بحيث تكون غير فاعلة، وغير قابلة للحياة، دون الاعتماد على الوجود الإسرائيلي المهيمن، مما يحيلها إلى دولة خاضعة، تكون مهمتها الوحيدة هي إخضاع السكان، في خدمة الاحتلال الإسرائيلي، ويرى هذا الاتجاه، الذي يرغب في العمل على مراحل، أن ما تخسره "إسرائيل" بسبب استمرار وجود استيطاني غير واسع في غزة، أكثر مما تكسبه، على كل المستويات، بدءاً من الخسائر البشرية، وانتهاء بالميزانيات الخاصة بالاستيطان المدلل، وبحمايته، إضافة إلى العزلة التي تعيشها "إسرائيل" عملياً، بسبب عملياتها التي لا تتوقف، ضد المدنيين في غزة، ومجمل جرائم الحرب التي ترتكبها منذ أربع سنوات.

أما وجهة النظر الثانية، فهي تؤمن بأن من حقها السيطرة على كل أرض تستطيع الوصول إليها بالقوة، وتحت حماية الجيش، وباستخدام كل ما هو ضروري من وسائل وميزانيات، لأنها لا تخرج في ذلك عن الأسلوب الذي استخدمته الصهيونية في تأسيس الدولة، منذ بدأ التخطيط لذلك، عن طريق الاستيلاء على الأرض، وطرد سكانها، وتحويل الوجود الإسرائيلي إلى أمر واقع، يعترف العالم بشرعيته، كما اعترف بوجود "إسرائيل" ذاتها.


وفي هذا الاتجاه، تتجاوز الاستهانة (بما يسمى )الشرعية الدولية، والاستخفاف بالرأي العام الدولي، وبقرارات مجلس الأمن، ومشاريع الأمم المتحدة، كل الحدود، كما يتجاوز الصراع داخل اليمين الإسرائيلي ذاته كل الحدود التي عرفها من قبل، بين مواقفه التي تسعى إلى الأهداف نفسها، إلى الدرجة التي تطلق فيها على عملية الانفصال عن غزة، المسميات التي يدعو إليها اليمين ضد الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها الترانسفير، بالرغم مما عرف عن وحدة اليمين تاريخياً، خاصة في مواجهة ما كان يشكل اليسار الإسرائيلي الأقل تطرفاً، والذي يمكن القول إنه منسحب من الساحة الآن، وربما إلى زمن طويل قادم.

إن انفراد اليمين بالحكم، في زمن المأزق الإسرائيلي الأبرز، منذ نشوء الدولة، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم، هو الذي تسبب في هذا الفرز داخل المعسكر اليميني المتماسك، هذا المأزق، كما يعرف كل إسرائيلي، نشأ بسبب تحول الصراع من معارك سريعة بين جيوش، ظلت فيها "إسرائيل" تحقق النصر، إلى معارك طويلة النفس، بين إرادات شعوب، على الوجود ذاته، وهو أمر لم تكن "إسرائيل" المدمنة على الانتصار مستعدة له، ولذلك ارتبكت منذ البداية، وتصور زعيم اليمين أنه يخوض معركة سهلة، ومنح نفسه مائة يوم للانتصار فيها، وأعلن هو شخصياً، أو بعض من هم حوله، تحقق الانتصار، مرة بعد مرة، لكن كل وسائلهم في الحرب، التي استخدموها ضد شعب أعزل، لم تحقق لهم إلا المزيد من تعمق المأزق، على المستوى الاقتصادي الواضح من ناحية، وعلى المستوى الأمني المتأرجح، وعلى المستوى الوجودي الذي يتعمق يوما بعد يوم، ويعمق الخلاف داخل اليمين، لأنه مأزق جديد، قد يحتاج إلى مواجهة مختلفة عن فرض الأمر الواقع بالقوة، لأن ذلك فشل، وكلف "إسرائيل" الكثير من الجهد والسمعة الدولية السيئة والمال والخسائر البشرية، وهي مواجهة قد تستلزم الانسحاب من جزء صغير، لتعزيز البقاء في جزء أكبر، كما يرى مؤيدو خطة الانفصال عن غزة، بينما يرى الفريق الذي يحارب الانسحاب أن الأسلوب القديم هو الأسلوب الناجع، مهما كانت التكاليف، لأنه الأسلوب الصهيوني المعتمد، منذ نشأت الصهيونية، مستندة إلى ما اختارته من غيبيات، معتمدة على قدرتها على كسب التأييد الغربي مهما بالغت في خطواتها.

الأهداف واحدة، لكن الأساليب بلغت حداً من الاختلاف يهدد بألا يبقى اليمين متماسكاً، لا بانفصاله بين يمين متطرف، وآخر أكثر تطرفاً وحسب، ولكن في صدام هذين الطرفين، أو الأطراف، بطريقة باتت تخيف بعض الذين يرون فيها تهديداً للوجود الإسرائيلي ذاته، أو إيذاناً بحرب أهلية تعيد سيرة العمر القصير لدولتين يهوديتين عبرتا الأرض الفلسطينية في التاريخ الغابر.

ما أوصل "إسرائيل" إلى مرحلة الصدام بين اليمين واليمين، في غياب تأثير اليسار، هو اختلاف نوعية المعركة التي تجري على الأرض الفلسطينية عما تعود عليه الجيش الإسرائيلي الذي لا يُغلب، كما كان يحلو لإسرائيل أن تفخر به، وكما تستمر في ذلك حتى الآن، رغم أنه يخسر معركته منذ أربع سنوات، ويتحول إلى جيش من الإرهاب، مهمته حماية الاستيطان غير الشرعي، والتنكيل بمن يخضعون لاحتلاله، ضد المواثيق الدولية، كما يتحول بالتدريج إلى جيش سياسي، يرسم خطوات الحكومة الإسرائيلية بدلاً من أن يكون تحت إمرتها، مما جعل الكثيرين يرون أنه "فقد براءته" التي كانت موضع اعتزاز كبير، وقادهم إلى التساؤل: إذا كان الآن يحكم من وراء ستار الحكومة، فمتى ستشهد "إسرائيل" حكمه المباشر، عن طريق انقلاب عسكري يقوده "وزير" من العسكر؟.

عملية القدس الأخيرة جاءت لتوقظ الإسرائيلي من حلمه: وإذا كانت عملية بئر السبع المزدوجة قاسية في نتائجها المادية، فإن عملية القدس أكثر قسوة في نتائجها المعنوية، في العملية المزدوجة، التي وصل منفذاها من الخليل، وجدت الحكومة الإسرائيلية تبريراً بعدم استكمال بناء جدار الفصل العنصري، حولته إلى دافع للإسراع، رغم محكمة العدل العليا، وحولته بالتالي إلى دافع آخر لصراع الإرادات، تبدو نتيجته واضحة في ثمانين جريحاً فلسطينياً عند قرية بدرس، حيث استؤنف بناء الجدار العنصري، أما في عملية القدس، التي وصلت منفذتها من نابلس إلى موقع العملية في أقل من ساعة، وسط إغلاق محكم، بسبب الأعياد اليهودية، ووسط توتر كبير، بسبب اقتحام المتطرفين ساحات المسجد الأقصى، فإن التبرير الذي قيل حول التسهيلات الإنسانية واستغلالها لا يقنع أحداً، حتى داخل الحكومة الإسرائيلية ذاتها، لأن القدس، يوم الأربعاء الماضي، كانت مغلقة من كل ناحية، خاصة في وجه كل فلسطيني، مهما كانت أسبابه الإنسانية.

المسألة ليست حرباً تقليدية، ومن المنطقي أن يفهم اليمين الإسرائيلي أن الأمن الحقيقي لن يكون إلا إذا توافر الأمن للفلسطينيين، وأن توافره لن يكون إلا إذا حصل الفلسطيني العادي على حقه في الحياة، بغض النظر عن السياسة وما يمكن أن تتنازل عنه، وهذا الحق واضح وبسيط: دولة حرة قابلة للحياة، تستطيع أن ترسم خطاها المستقلة نحو المستقبل، ما دون ذلك، من أساليب الصهيونية القديمة، أو الأساليب التي تحاول أن تجدد، سيظل دون جدوى، ولن يفيد في شيء إلا في توسيع دائرة الموت، يوما بعد يوم، بطريقة أقرب إلى ما هو عبثي، مما لا يوصل إلى نهاية في النفق الطويل.
صحيفة الوطن القطرية 26/9/2004

www.islamweb.net