الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

عدم الإكراه في الدين لا يعني الأمر بحرية الاعتقاد

السؤال

من نماذج حماية حقوق الإنسان في الإسلام حرية الاعتقاد، والسؤال: أمر الإسلام بحرية الاعتقاد بالدخول إلى الإسلام، ولكن لماذا رفض لمن دخل في الإسلام الخروج منه ولم يجعله حراً؟ أرجو الإجابة بالتفصيل والأدلة.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا نعلم أن الإسلام أمر بحرية الاعتقاد، كما يقول السائل الكريم!! وإنما أمر بالإيمان بالله تعالى وتوحيده، وبطاعته وطاعة رسوله، وبالدخول في الإسلام كافة، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ { البقرة: 208}.
وقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ {يوسف: 40}.

وقال: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ { الأعراف: 28}.

وقال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ { البينة: 5}.

وقال: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ {التوبة: 31}.

وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ* إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ {الأنفال: 20ـ22}.

وهذه الآيات ونحوها واضحة الدلالة في هذا المعنى، وإن كان سياقها يحتاج إلى تأمل وتدبر، لنقف على عمق الموضوع وعلاقته بقضية التدين بوجه عام، وضرورة بيان الحق وتمييزه عن الباطل في هذا الباب الهام، وقد سئل الشيخ ابن باز: إذا كان الإسلام قد أقر حرية العقيدة، فلماذا يحارب الوثنية والارتداد والإلحاد؟ فقال: الإسلام لا يقر حرية العقيدة، وإنما الإسلام يأمر بالعقيدة الصالحة، ويلزم بها ويفرضها على الناس، ولا يجعل الإنسان حرا يختار ما شاء من الأديان، لا، القول بأن الإسلام يجيز حرية العقيدة، هذا غلط، الإسلام يوجب توحيد الله، والإخلاص له سبحانه، والالتزام بدينه والدخول في الإسلام والبعد عما حرم الله، وأعظم الواجبات وأهمها: توحيد الله، والإخلاص له، وأعظم المعاصي وأعظم الذنوب: الشرك بالله عز وجل، وفعل ما يُكفر العبد من سائر أنواع الإلحاد، والله سبحانه يقول: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، ويقول سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ. اهـ.

وسئل الشيخ ابن عثيمين: نسمع ونقرأ كلمة حرية الفكر، وهي دعوة إلى حرية الاعتقاد، فما تعليقكم على ذلك؟ فقال: تعليقنا على ذلك أن الذي يجيز أن يكون الإنسان حر الاعتقاد، يعتقد ما شاء من الأديان فإنه كافر، لأن كل من اعتقد أن أحداً يسوغ له أن يتدين بغير دين محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كافر بالله عز وجل يستتاب، فإن تاب وإلا وجب قتله، والأديان ليست أفكاراً، ولكنها وحي من الله عز وجل ينزله على رسله، ليسير عباده عليه، وخلاصة الجواب: أن من اعتقد أنه يجوز لأحد أن يتدين بما شاء وأنه حر فيما يتدين به، فإنه كافر بالله عز وجل، لأن الله تعالى يقول: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ويقول: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام ـ فلا يجوز لأحد أن يعتقد أن ديناً سوى الإسلام جائز يجوز للإنسان أن يتعبد به، بل إذا اعتقد هذا فقد صرح أهل العلم بأنه كافر كفراً مخرجاً عن الملة. اهـ.

ونرجع إلى سؤال السائل فنصوبه على حسب ما نظن أنه مراده فنقول: الذي يظهر من مراده أن الإسلام لم يأمر بإكراه الناس على الدخول فيه، وهذا صواب، فمثل هذا التدين الذي يُظهره صاحبه مُكرَها لا ينفعه، ومثل هذا الإكراه لا يحتاج إليه إلا من كان دينه وعقيدته ترفضها العقول الصائبة السليمة، وتأباهما الفطرة السوية المستقيمة، والإسلام ـ بحمد الله ـ أبعد شيء عن هذا، فهو الدين الوحيد الموافق للعقل، المناسب للفطرة، المحصل لمنفعة الروح والبدن، الجامع لمصلحة الدنيا والآخرة، ولذلك لما قال تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ـ قال بعدها: قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ { البقرة: 256}.

قال السعدي: يخبر تعالى أنه لا إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الإكراه عليه، لأن الإكراه لا يكون إلا على أمر خفية أعلامه غامضة أثاره، أو أمر في غاية الكراهة للنفوس، وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت أعلامه للعقول، وظهرت طرقه، وتبين أمره، وعرف الرشد من الغي، فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره، وأما من كان سيئ القصد فاسد الإرادة، خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل، ويبصر الحسن فيميل إلى القبيح، فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين، لعدم النتيجة والفائدة فيه، والمكره ليس إيمانه صحيحا. اهـ.

وأما سؤال السائل عن عدم السماح لمن دخل في الإسلام طواعية أن يخرج منه؟! فسؤال في محله، ولكن ينبغي أن يقيد ذلك بالمجاهر، فإن من ارتد وأخفى ذلك، لم يصبه حدٌّ في الدنيا، فإنا لم نؤمر أن نشق على الناس صدورهم، وكذلك من لحق بديار دينه الجديد وساكنهم وفارق ديار المسلمين وسلطانهم، فقد فر من حد الردة وغيره من حدود الشريعة الإسلامية، ولنفصل محل السؤال نقول: من ثبت له الإسلام لكونه مولودا من أب أو أم مسلمة، قد اختلِف في ما إذا كان يقتل إذا بلغ ولم يرض بالإسلام أم لا؟ وقد سبق لنا في الفتوى رقم: 50846، أن الأصوب عندنا في هذه المسألة أن الذي يحكم بإسلامه هو من نطق بالشهادة وأظهر الإسلام بعد بلوغه سن الخطاب، لأنه قبل ذلك لم يكن ملزما بما يصدر عنه، وراجع في ذلك الفتوى المحال عليها آنفا.

وأما من اختار الإسلام بعد بلوغه، أو دخل فيه بعد ذلك من الكافرين طواعية، فهذا إن جهر بردته استحق القتل، وقد شغب كثير من الناس على هذا الحد الشرعي الحكيم، جهلا أو تجاهلا، عما وراءه من الحكم العظيمة والمراعاة للمصالح العليا للمجتمع المسلم، ولكثرة ما أثير حول حد الردة من شبهات، فإننا ننبه الأخ السائل على أن مجال الفتوى هنا لا يتناسب مع إعطاء هذا المقام حقه، ولذلك نحيل السائل على الدراسات والأبحاث والمقالات المتخصصة في هذا الموضوع، ومن ذلك كتاب: عقوبة الارتداد عن الدين بين الأدلة الشرعية وشبهات المنكرين ـ للدكتور عبد العظيم المطعني.

وكتاب: قتل المرتد إذا لم يتب ـ للدكتور عبد الله الأهدل.

وكتاب: عقوبتا الزاني والمرتد ودفع الشبهات ـ للدكتور عماد الشربيني.

ومن المفيد جدا في هذا الموضوع نقد المهندس عزام حدبا لمقال ساندرا إلياس المُعَنْوَن له بـ: المرتد بين شبح الإسلام ونور حقوق الإنسان، ومما جاء فيه: الارتداد عن دين الله بعد الإيمان معناه إفساد نظام لا مجرد تغيير عقيدة فردية، فالإسلام نظام عملي قائم على عقيدة، ومجتمع قائم على هذا النظام، وللأمة الإسلامية ـ كما لكل أمة في العالم ـ حرص شديد على سلامتها الجسدية والعصبية والفكرية والروحية العقائدية، فلا تبيح لفرد أن يجاهرها العداء وإلا اعتبرته خارجاً عن القانون يعاقب بعقوبة تنص عليها قوانين الدول كل بحسبها، وأكثرها نصت على عقوبة الإعدام، فلننظر إلى النظام الشيوعي الذي لم يكتف بحظر أي فكرة مخالفة، بل تعداه إلى الملاحقة والاجتثاث بشكل عنيف ودموي، وإذا كان الغرب العلماني لا يهتم بالدين ابتداءً، فهل يتوقع منه أن يحميه؟! ولكن من قال إن العلمانيات لا تحمي أساسيات العلمانية؟! العلمانيّات ترفض بشدّة كل ما هو غير علماني، بل وتلاحقه بأساليب مختلفة، فكان على رأس الملاحقين في أمريكا مثلاً الحزب الشيوعي والفكرة الشيوعيّة، إن من البدهي أن يحمي كل نظام أساسيّاته ومقدّساته، ولم يشذ في ذلك مجتمع قديم أو معاصر، وإن اختلفت المجتمعات فيما هو مقدّس وتجب حمايته، أول دولة علمانية عرفها العالم، ألا وهي فرنسا، لا تطيق أن ترى قلة من الفتيات المسلمات يلبسن غطاء الرأس وليس غطاء الوجه، ويكون التدخل من أعلى سلطة في الدولة، لماذا؟ قالوا: لأنّ هذا نوع من التبشير الديني الصامت والسؤال: لنفرض أن هذا صحيح، فما الخطأ في ذلك، في دولة علمانية؟ ونحن نتكلم عن طالبة وليس عن معلمة؟ نعم لا شكّ أن لديهم إجابة، قالوا: من واجبنا حماية القيم العلمانيّة، نعم هم يعرفون أنها مسلمة، ولكنهم يرفضون أن تعبر عن ذلك حتى في اللباس، قد نفهم إذا قيل: إن المرأة المتبرجة تتدخل في خصوصيّات الرجال، وتسيء إليهم بفتنتها، ولكن ما ذنب المرأة التي تغطي رأسها، وما الضرر على القيم العلمانية، خاصة وأن الاحتشام مطلوب في كل الأديان؟! ولكن يبقى العنوان هو حماية القيم العلمانية. اهـ.

وكذلك انتقد هذا المقال: الدكتور زاهر بن محمد الشهري، ومما جاء فيه: إن النظام في كافة التشريعات الوضعية فيمن خرج عن نظام الدولة، أو أوضاعها المختلفة، سواء في دولة شيوعية أو رأسمالية أو علمانية أو ليبرالية، أو أي اسم آخر، إذا خرج عن نظامها، فإنه يتهم بالخيانة العظمى لبلاده والتي يعدم لأجلها، والإسلام ليس وحيداً ولابدعاً عن بقية الأديان والأنظمة، فهو يرى أن الردة المعلنة جريمة كبرى، لأنها خطرعلى شخصية المجتمع وكيانه المعنوي، وخطر على الضرورة الأولى من الضرورات الخمس: الدين والنفس والنسل والعقل والمال ـ والإسلام لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة، يُدخل فيه اليوم، ويُخرج منه غداً على طريقة بعض اليهود الذين قالوا: آمنوا بالذى أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ـ والردة عن الإسلام ليست مجرد موقف عقلي أو فردي، بل هي أيضاً تغير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء. اهـ.

وقد سبق لنا بيان الأدلة الواقعية والنقلية على وجوب قتل المرتد وحكمة ذلك، في الفتاوى التالية أرقامها: 142343، 13987، 150995.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني