الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم التربص وعمل كمين لمن ظهر منه السوء لكشف جرمه ومعاقبته

السؤال

أعمل في شركة، ولدينا أحد العمال الآسيويين المسلمين يسرق الأشياء من المكاتب، فقام ثلاثة من الزملاء بالتربص به ووضع جوال في مكان دورة المياه ومراقبته حتى دخل وخرج من الحمام وسألوه عن الجوال فأنكر، فقاموا بتفتيشه واستخرجوه من جيب البنطلون وقاموا بتسليمه للأمن لمعاقبته، وتم إبعاده من عمله في الشركة، فهل يجوز عمل كمين له بهذه الطريقة والتربص به لإثبات جرمه؟.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن الأصل حرمة إساءة الظن بالمسلم العدل، وأما من ظهرت منه أمارات السوء فلا إثم في إساءة الظن به، قال القرطبي: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة وسبب ظاهر كان حراما واجب الاجتناب، وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد منه الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظن الفساد به والخيانة محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب والمجاهرة بالخبائث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم من المسلم دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء ـ وعن الحسن: كنا في زمن الظن بالناس فيه حرام، وأنت اليوم في زمن اعمل واسكت وظن في الناس ما شئت. اهـ.

وعمل مثل هذا الكمين لمعرفة سارق الأمتعة لا يظهر ما يمنع منه، فوضع الجوال في دورة المياه هو تصرف من الشخص في ملكه فلا موجب لحظره، وأما تفتيش العامل بعد إنكاره لأخذ الجوال، فلا يظهر مانع منه، لليقين الحاصل بأنه قد أخذ الجوال، ولأن ترك التفتيش في هذه الحالة يؤدي إلى فقدان الجوال، وهذا مما لا يستدرك، وبعض العلماء يرخص في التجسس وكشف الأستار إذا كان في انتهاك حرمة يفوت استدراكها، جاء في شرح مسلم للنووي: قال أقضى القضاة الماوردي ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان؛ أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله أو بامرأة ليزني بها فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. الضرب الثاني ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول، لأن المنكر ظاهر وليس عليه أن يكشف عن الباطن. اهـ.

وقد يدل على جواز التفتيش عند الحاجة إليه حديث علي ـ رضي الله عنه ـ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا مرثد الغنوي، والزبير بن العوام، وكلنا فارس، قال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها امرأة من المشركين، معها كتاب من حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين، فأدركناها تسير على بعير لها، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: الكتاب، فقالت: ما معنا كتاب، فأنخناها فالتمسنا فلم نر كتابا، فقلنا: ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أهوت إلى حجزتها، وهي محتجزة بكساء، فأخرجته.. الحديث متفق عليه.

جاء في فتح الباري: قال المهلب في حديث علي هتك ستر الذنب وكشف المرأة العاصية وما روي أنه لا يجوز النظر في كتاب أحد إلا بإذنه إنما هو في حق من لم يكن متهما على المسلمين، وأما من كان متهما فلا حرمة له. اهـ.

وفي غذاء الألباب شرح منظومة الآداب: ويحرم تجسيس على متستر... بفسق وماضي الفسق إن لم يجدد على متستر متعلق بتجسيس، بخلاف المعلن فإنه لا يحرم التجسس عليه ولا غيبته، لأنه قد ألقى جلباب الحياء عن وجهه بعمل أو قول يؤدي إلى فسق من شرب خمر وزنا ولواط ونحوها. اهـ

قال الإمام ابن الجوزي: من تستر بالمعصية في داره وأغلق بابه لم يجز أن يتجسس عليه إلا أن يظهر ما يعرفه كأصوات المزامير والعيدان، فلمن سمع ذلك أن يدخل ويكسر الملاهي، وإن فاحت رائحة الخمر فالأظهر جواز الإنكار. انتهى.

قال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية: من كان مشتهرا بالمعاصي معلنا بها ولا يبالي بما ارتكب منها ولا بما قيل له، فهذا هو الفاجر المعلن وليس له غيبة، ومثل هذا فلا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود وصرح بذلك بعض أصحابنا. اهـ باختصار.

وراجع للفائدة الفتويين رقم: 30115 ، ورقم: 15454.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني