الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

هل يجوز لمن وفقه الله لعمل صالح أن يقول: إن الله اصطفاني؟

السؤال

إذا وفقني الله لعمل من أعمال الخير -كحفظ القرآن مثلًا- فهل يجوز أن أقول: إن الله اصطفاني؟ وما هي الأوجه التي يجوز فيها؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فقد قال تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ {البقرة:132}.

قال ابن عاشور -رحمه الله-: واصْطَفى لَكُمُ: اخْتَارَ لَكُمُ الدِّينَ، أَيِ: الدِّينُ الْكَامِلُ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ اخْتَارَهُ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْأَدْيَانِ، وَأَنَّهُ فَضَّلَهُمْ بِهِ؛ لِأَنَّ اصْطَفَى لَكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ادَّخَرَهُ لِأَجْلِهِ، وَأَرَادَ بِهِ دِينُ الْحَنِيفِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ قَالَ: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. انتهى.

وعليه؛ فيجوز للعبد أن يقول: إن الله اصطفاني من بين كثير من خلقه بالإسلام، وكذلك كل الأعمال الصالحة.

قال تعالى: يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ (آل عمران: 42)، وقال: قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 247).

لكن يبقى أن الشعور بالاصطفاء يحمد إذا كان سببًا دافعًا للطاعة، ومغالبة الهوى، لا إن قعد بصاحبه عن طلب المعالي بدعوى الاصطفاء.

يقول سليمان بن سعد بن خضير في مقاله: الشعور بالخصوصية حاجة أم توهم: وشعوره بهذه الخصوصية - وهو يعاني مغالبة أهوائه، وتقلبات نفسه عليه - يلقي في روعه الحياء من ربه، وتصور مراقبته وعتابه؛ إذ كيف خصصتك من بين عبادي، فتفرِّط في نعمتي، وتنقض غزلك من بعد قوته؟ [قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ] (يوسف: 23)، وليس هذا الشعور مجرد شعور طارئ، أو حالة نفسية قلقة، بل شعور يقيني، يبعث على الاطمئنان بالله، والثقة به، والإخبات له، وهو شعور قلبي راسخ، يورث دوام المراقبة، وهو شعور متدفق، يذكِّر بالمسؤولية الذاتية، ويساهم - بنحو أساس - في الثبات على دين الله، هذا الشعور بأي من درجاته يفترض زيادته بقدر زيادة المسلم في الخير، وبحسب استقامته، وتدينه؛ ليدفعه إلى تذكُّر ربه، فيطمئن إلى ذكره، ويتوكل عليه سبحانه، ويسعى لمطالعة إحسانه، ومعرفة شريعته، وأسرار كتابه، ويحدوه لمراقبته في سائر أعماله، ومتى تحولت مشاعر الخصوصية إلى نوع من الأعذار للإسراف في المباح، أو تأشيرة مرور لممارسة ممنوع، أو تراخٍ في واجب، أو قناع لمخادعة النفس من أجل الرضى بمستوى تدين فاتر، متى ما كان ذلك، أشبه الشعور بالخصوصية حينئذ مقام أولياء المتصوفة الذين رأوا أنهم تجاوزوا قنطرة العمل، وولجوا قصر الوصاية، وجنات خاصة الخاصة! والشعور بالخصوصية لا يعني أن يفرط المسلم في أعماله، ويتوانى في أدائها، افتياتًا على ثقة الناس بتدينه، ولا يبيح أن يرد الحق - إذا جاء به أحد كائنًا من كان - بزعم أنه يعرف الحق، وقد يصبح ذلك الشعور - أحيانًا - نوعًا من انتحال الصفات، وتقمُّص الشخصيات الوارد نحوه في قوله صلى الله عليه وسلم: «المتشبِّع بما لم يُعطَ كلابس ثوبَيْ زور» [متفق عليه] وهو مرض نفس خطر. انتهى.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني