الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم الإنكار على مَن يُظَن عدم قبوله، أو كان يترتب عليه ضرب وسب للناصح

السؤال

أود أن أسألكم عن حكم الإمساك عن نصح هؤلاء الأشخاص:
1- من غلب على ظني أنهم ربما يتركون العمل الصالح بالكلية إذا أخبرتهم بالخلل الذي يفعلونه؛ مثال: أخشى لو قلت لبعض الناس: إن مَن يبدل حرفًا بحرف في الفاتحة تبطل صلاته، أن يتركوا صلاة الجماعة بالكلية، فأمسك عن نصحهم، وأقول: دع الناس على المذهب اليسير في المسألة.
2- من غلب على ظني أنه لن ينتفع بالنصيحة، ولن يلقي لها بالًا، فقد يكون تعلم وعرف الخطأ، ومع ذلك تجاهله، فتبطل عبادته، فأذره في جهله -لعل الله لا يؤاخذه- مثال: من يقرأ الفاتحة بشكل خاطئ بإنقاص حروف، أو زيادة فيها.
3- من غلب على ظني أنه سيصلح الخلل في العبادات القادمة، ولكن لن يعيد الصلوات التي ترك ركنًا من أركانها جهلًا، أو كان يتوضأ بشكل خاطئ، فأعلمه الخطأ، وأنصحه بإصلاحه، ولكن لا أقول له: إن عليه أن يعيد الصلوات، بل أميل إلى التخفيف عن هؤلاء بأن أقول لنفسي: طالما هناك مذهب خفيف في المسألة (مذهب ابن تيمية) فلن أضيق عليه، وهذا خشية أن يضيق صدره بالإسلام، أو أن يكره ما علمته إياه؛ لأنه سيكلفه مشقة كبرى.
4- من غلب على ظني أني إذا نصحته سيتشاجر معي، أو يشتمني، أو يهينني، أو يضربني؛ مثال: نصح من يسبّ الدين في الشوارع.

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فإنا ننصحك بالحرص على نصح المسلمين بحسب ما يتيسر لك؛ فإن تعليم المسلم إخوانه، ونصحهم مطلب شرعي لا يسعه تركه متى قدر عليه، ورجا انتفاعهم به؛ ففي الصحيحين عن جرير بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم. وفي صحيح مسلم عن تميم الداري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة. قلنا: لمن؟ قال: لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم. وجاء في شرح النووي على مسلم: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة، إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه، ويطاع أمره، وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى، فهو في سعة. انتهى.

واختلف هل يشترط في وجوب النصح ظن قبول المنصوح أم لا؟ فقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لا يسقط الوجوب بعدم قبول المنصوح نصح من أمره، أو نهاه؛ لأن الناهي يقوم بما أوجب الله عليه من النهي عن المنكر معذرة إلى ربه، أو ليهتدي المنهي، ويدل لهذا قول الله في شأن من نهوا عن الصيد يوم السبت: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأعراف: 164}.

وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: قال العلماء -رضي الله عنهم-: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر، والنهي، لا القبول. اهـ.

وخالف في هذا جمع منهم, فرأوا عدم وجوب النهي إن ظن عدم الإفادة, فقد ذكر ابن عبد السلام في قواعده أنه لا يجب الإنكار عند اليأس من الاستجابة, وإنما يكون مستحبًا، وذكر كذلك أنه لا ينكر على من يرى حلية المنكر، إلا إذا كان مأخذه ضعيفًا، قال -رحمه الله تعالى-: فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره، ونهيه لا يجديان، ولا يفيدان شيئًا, أو غلب على ظنه, سقط الوجوب؛ لأنه وسيلة، ويبقى الاستحباب, والوسائل تسقط بسقوط المقاصد, وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام، وفيه الأنصاب والأوثان، ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه, وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم, وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة، والظلمة فسوقهم، وظلمهم، وفجورهم كلما رأوهم, مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم, وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم, فيزداد فسوقًا إلى فسوقه, وفجورًا إلى فجوره , فمن أتى شيئًا مختلفًا في تحريمه، معتقدًا تحريمه وجب الإنكار عليه لانتهاك الحرمة, وذلك مثل اللعب بالشطرنج, وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه، إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفًا، تنقض الأحكام بمثله؛ لبطلانه في الشرع, إذ لا ينقض إلا لكونه باطلًا, وذلك كمن يطأ جارية بالإباحة معتقدًا لمذهب عطاء، فيجب الإنكار عليه, وإن لم يعتقد تحريمًا، ولا تحليلًا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ، ولا إنكار. اهـ.

وقال الحافظ ابن رجب في شرح الأربعين النووية: حكى القاضي أبو يعلى روايتين عن الإمام أحمد في وجوب إنكار المنكر على من يعلم أنه لا يقبل منه, وصحح القول بوجوبه, وهو قول أكثر العلماء. وقد قيل لبعض السلف في هذا فقال: يكون لك معذرة، وهذا كما أخبر الله عن الذين أنكروا على المعتدين في السبت أنهم قالوا لمن قال لهم: {لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون}. قال الحافظ: وقد ورد ما يستدل به على سقوط الأمر والنهي عند عدم القبول، والانتفاع به ... اهـ.

وأما من كان يخطئ في بعض الأقوال، أو الأفعال فعليك بتصحيح الخطأ له، وإقناعه بالالتزام بالصلاة مع الجماعة.

وأما إن تأكدت من تركه الفرائض بسبب ذلك فلك أن تترك النصح إن كان لحنه لا يبطل الصلاة؛ لأن من شرط النهي عن المنكر أن لا يترتب عليه منكر أعظم، وأما إن كان اللحن المذكور تبطل به الصلاة، فيتعين تعليمه، والتصحيح له، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمت، فإنه يجب ترجيح الراجح منها، فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد، وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي -وإن كان متضمنًا لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأمورًا به، بل يكون محرّمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته، لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون خبيرًا بها، وبدلالتها على الأحكام.

وعلى هذا؛ إذا كان الشخص، أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكر، بحيث لا يفرقون بينهما، بل إما أن يفعلوهما جميعًا، أو تركوهما جميعًا، لم يجز أن يأمروا بمعروف، ولا أن ينهوا عن منكر، بل أن ينظر، فإن كان المعروف أكثر أمر به، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه، بل يكون النهي حينئذ من باب الصدّ عن سبيل الله، والسعي في زوال طاعته، وطاعة رسوله، وزوال فعل الحسنات، وإن كان المنكر أغلب نهى عنه، وإن استلزم ما هو دونه من المعروف، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه أمرًا بمنكر، وسعيًا في معصية الله ورسوله، وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان لم يؤمر بهما، ولم ينه عنهما، فتارة يصلح الأمر، وتارة يصلح النهي، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي حيث كان المعروف والمنكر متلازمين، وذلك في الأمور المعينة الواقعة. اهـ.

وأما الخوف من الضرب، فهو عذر في ترك النصح، وأما مجرد الشتم فليس بعذر؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره, وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.

قال النووي -رحمه الله- في شرحه: معناه: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحدًا، ولا نخافه إلا هو، ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه، أو ماله، أو على غيره، سقط الإنكار بيده، ووجبت كراهته بقلبه، هذا مذهبنا، ومذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا عن بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقًا في هذه الحالة، وغيرها. اهـ.

وقال القرطبي: قال ابن عطية: والإجماع منعقد على أن النهي عن المنكر فرض لمن أطاقه، وأمن الضرر على نفسه، وعلى المسلمين، فإن خاف فينكر بقلبه، ويهجر ذا المنكر ولا يخالطه. اهـ.

وقال الإمام الغزالي: من علم أنه يضرب ضربًا مؤلمًا يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة، وإن كان يستحب له ذلك كما سبق، وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح، والقطع، والقتل أظهر ... اهـ.

أما الخوف من السب، والشتم، واللوم: فليس بعذر؛ قال الإمام الغزالي: ولو تُركت الحسبة بلوم لائم، أو باغتياب فاسق، أو شتمه، وتعنيفه، أو سقوط المنزلة عن قلبه، وقلب أمثاله، لم يكن للحسبة وجوب أصلاً؛ إذ لا تنفك الحسبة عنه، إلا إذا كان المنكر هو الغيبة، وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب، ولكن أضافه إليه، وأدخله معه في الغيبة، فتحرم هذه الحسبة؛ لأنها سبب زيادة المعصية، وإن علم أنه يترك تلك الغيبة، ويقتصر على غيبته، فلا تجب عليه الحسبة؛ لأن غيبته أيضًا معصية في حق المغتاب، ولكن يستحب له ذلك ليفدي عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار. اهـ.

وراجع للمزيد في الموضوع الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 36372، 128990، 17092، 38424، 26058، 12161، 22063.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني