الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

مصير المسلم إذا مات وهو يفعل المعصية أو فعلها مرة واحدة

السؤال

هل من مات وهو يفعل معصية، يعذب في النار حتى لو كانت أول مرة يفعلها؟ وهل هناك أقوال، وتوضيح أكثر.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن المسلم إذا مات مصرا على معصية -سواء مات أثناء فعله للمعصية، أو بعد فراغه منها، ولم يتب- فهو تحت مشيئة الله إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه، ولا يجزم لمسلم معين مهما عظمت ذنوبه بأنه سيعذب في النار. هذا هو اعتقاد أهل السنة والجماعة -خلافا للوعيدية من الخوارج والمعتزلة وغيرهم-.

جاء في شرح مسلم للنووي: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن الحديث) وفي رواية: ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن. وفي رواية: والتوبة معروضة بعد.

هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون، أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان. وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة.

وإنما تأولناه على ما ذكرناه؛ لحديث أبي ذر وغيره: من قال: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق. وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور، أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يعصوا... إلى آخره. ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته. ومن فعل ولم يعاقب، فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه. فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قوله الله عز وجل: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك، لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر، كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. اهـ.

وفي لوامع الأنوار البهية للسفاريني: والحاصل أن مذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة، أن من مات مذنبا، ولو مصرا على كبائر الذنوب ولم يتب منها لعلام الغيوب؛ لم نقطع له بخروج من الدين، بل نثبت أنه من المؤمنين، ولم نقطع له بدخول النار، بل نفوض أمره إلى الحليم الغفار، فإن شاء عذبه، غير أنه لا يخلده في النار، وإن شاء عفا عنه ابتداء، إما بشفاعة مقبولة، أو بدعوة صالح، أو بمصيبة؛ من تشديد عند الموت، أو غيره من مصائب البرزخ، والصدقة عند الموت، والأعمال الصالحة التي يهديها غيره له، أو يرحمه أرحم الراحمين ونحو ذلك، وإن شاء رفع عنه العذاب، وأجزل له الثواب، ورفع له الدرجات، وبدل الله سيئاته حسنات.

فأهل السنة لا يقطعون له بالعقوبة ولا بالعفو، بل هو في مشيئة الله -تعالى-، وإنما يقطعون بعدم الخلود في النار بمقتضى ما سبق من وعده، وثبت بالدليل، خلافا للمعتزلة في قولهم: نقطع له بالعذاب الدائم، والبقاء المخلد في النار، لكنه عندهم يعذب عذاب الفساق لا عذاب الكفار، وأما الخوارج فعندهم أنه يعذب عذاب الكفار لكفره عندهم.

والدليل لمذهب أهل الحق الآيات والأحاديث الدالة على أن المؤمنين يدخلون الجنة، فإن كان بعد العذاب ودخول النار فهي مسألة انقطاع العذاب، وإن كان قبل ذلك فهي مسألة العفو التام، قال -تعالى-: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة} [غافر: 7 - 40]، وقال صلى الله عليه وسلم: "«من قال لا إله إلا الله دخل الجنة»" وقال: "«من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وإن زنى، وإن سرق» "وكقوله صلى الله عليه وسلم: "«يخرج من النار قوم بعد ما امتحشوا وصاروا حمما وفحما، فيفرقون على أنهار الجنة ويرش عليهم من مائها، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل، فيحيون ويعودون لحالهم الأولى وأحسن» " وقوله صلى الله عليه وسلم: "«يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان»"

ثم قال: ذكر بعض المحققين انعقاد الإجماع على أنه لا بد سمعا من نفوذ الوعيد في طائفة من العصاة، أو طائفة من كل صنف منهم؛ كالزناة، وشربة الخمر، وقتلة الأنفس، وأكلة الربا، وأهل السرقة والغصوب إذا ماتوا على غير توبة، فلا بد من نفوذ الوعيد في كل طائفة من كل صنف، لا لفرد معين؛ لجواز العفو. اهـ. باختصار.

وأما فعل المعصية مرة واحدة: فإن الذي يقال في هذا الشأن: أن تكرار الذنب واعتياده، والإصرار عليه، من موجبات تعظيمه، وأنه لا يستوي أبدا من يصر على الذنب ويكرره ويعاوده، ومن يفعل الذنب مرة واحدة ولا يعود.

قال ابن القيم في قوله تعالى: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ {النجم:32}.

قال: والصحيح قول الجمهور أن اللمم صغائر الذنوب، كالنظرة، والغمزة، والقبلة، ونحو ذلك، هذا قول جمهور الصحابة ومن بعدهم، وهو قول أبي هريرة، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، ومسروق، والشعبي. ولا ينافي هذا قول أبي هريرة، وابن عباس في الرواية الأخرى: إنه يلم بالكبيرة ثم لا يعود إليها، فإن اللمم إما أنه يتناول هذا وهذا، ويكون على وجهين، كما قال الكلبي، أو أن أبا هريرة، وابن عباس ألحقا من ارتكب الكبيرة مرة واحدة -ولم يصر عليها، بل حصلت منه فلتة في عمره- باللمم، ورأيا أنها إنما تتغلظ وتكبر وتعظم في حق من تكررت منه مرارا عديدة.
وهذا من فقه الصحابة -رضي الله عنهم- وغور علومهم، ولا ريب أن الله يسامح عبده المرة والمرتين والثلاث، وإنما يخاف العنت على من اتخذ الذنب عادته، وتكرر منه مرارا كثيرة، وفي ذلك آثار سلفية، والاعتبار بالواقع يدل على هذا، ويذكر عن علي -رضي الله عنه- أنه دفع إليه سارق، فأمر بقطع يده، فقال: يا أمير المؤمنين؛ والله ما سرقت غير هذه المرة، فقال: كذبت، فلما قطعت يده قال: اصدقني، كم لك بهذه المرة؟ فقال: كذا وكذا مرة؟ فقال: صدقت، إن الله لا يؤاخذ بأول ذنب، أو كما قال، فأول ذنب إن لم يكن هو اللمم، فهو من جنسه ونظيره، فالقولان عن أبي هريرة، وابن عباس متفقان غير مختلفين. اهـ. من مدارج السالكين.

وراجعي للفائدة، الفتوى: 8735.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني