الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

للمظلوم مع ظالمه ثلاث خيارات

السؤال

يقول ربنا عز وجل في القرآن (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما )كيف نوفق بين هذا القول وبين حفظ كرامتنا وصون أنفسنا عن الإهانة ؛ فإني تعرض لي أناس لم يجدي معهم إحساني ولاعفوى وهم مصرون على أحقادهم وعلى تفسير الأمور والمواقف حسب ما تمليه عليهم أنفسهم الشريرة مهما توضح لهم وتحسن إليهم لايجدى معهم نفعا. أما الحل الذى أفكر فيه هو معاقبة أولئك الدين جبلت أنفسهم على الشر وعلى أذى الناس وإيقافهم عند حدهم حتى لا يظنوا أن صمت المؤمن ضعف ومذلة إنما هو صمت في الله؛ أظن أن معاقبتهم ومواجهتهم بأخطائهم حل رادع لهم لأنهم لا يفقهون معنى إحسانك إليهم ويتوبوا إنما يزيدهم هذا تماديا ظنا منهم أنك شخص ضعيف؛ ولأني أومن بأن المؤمن يجب أن يكون فعالا وإيجابيا دوما فإني أرى من الإيجابية أن يؤخذ على يد الظالم حتى لا يتمادى وإني أرى من الأولى هجر أولئك الحاقدين وردعهم فما رأيكم.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فإن من وقع عليه الأذى والإهانة من الناس يشرع له ثلاثة أمور: الأول: أن يعفو ويصفح، لينال أجر المتقين الصابرين ومعية الله وعونه، كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ *الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين {آل عمران: 133ـ134}. وقال تعالى: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله{الشورى: 40}. وقال: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ {النور: 22}. وقال تعالى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى:43}. وقال تعالى: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ {النحل: 126}. وقال تعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً {المزمل:10 }. وقال تعالى: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ {التغابن: 14}. وقال تعالى: وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ {فصلت:34 ـ 35}. وفي صحيح مسلم أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيؤون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، فقال: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك. وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله. وفي سنن الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المسلم إذا كان مخالطا للناس ويصبر على أذاهم، خير من المسلم الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم. وصححه الألباني. وفي سنن ابن ماجه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كظم غيظه وهو يقدر على أن ينتصر دعاه الله تبارك وتعالى على رؤوس الخلائق حتى يخيره في حور العين أيتهن شاء. وحسنه الألباني. ومن هذا الباب الإعراض المستفاد من قوله تعالى: وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً {الفرقان: 63}. وقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ {لأعراف:199}. والخيار الثاني: الإمساك عن العفو والصفح ليلقى المذنب ربه بما اقترف من الإثم. لكن كما قال بعض السلف ـ ما يفيدك أن يعذب الله أحدا لأجلك؟ مع ما يفوتك من أجر العفو، لو عفوت. أما الخيار الثالث: فهو المقاصة، ومقابلة السيئة بمثلها دون تجاوز، لقوله تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ {الشورى: 40}. وقوله: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً *إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً {النساء: 148ـ149}. وقوله تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ *إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ* وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ {الشورى: 41ـ 43}. ولا شك أن المقام الأول هو أعلى المقامات، وأفضل الخيارات، لما جاء فيه من الأجر والثواب، ومما يؤكد ذلك أن الآيات التي أفادت إباحة المقابلة بالمثل قرنت بالدعوة والترغيب في العفو، والعفو معناه تحمل الإساءة والصبر على آثارها، رجاء ثواب الله وحسن العاقبة لديه. ثم ليعلم أن الأخذ على يد الظالم وأطره على الحق واجب من واجبات الجماعة المسلمة يقوم به ولي أمرهم أو جماعتهم الآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني