الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

فتنة العابد الجاهل

فتنة العابد الجاهل

فتنة العابد الجاهل

الجهل داء خطير وشر مستطير، بل هو والظلم أساس الشر كله.. قال شيخ الإسلام: "وجماع الشر الجهل والظلم، قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا}(الأحزاب).

وليست صفة تزري بصاحبها كالجهل، فهو أعدى الأعداء، كما أنه ليس صفة يتمدح بها صاحبها كالعلم، فهو أفضل الرفقاء وأعظم الأصدقاء، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يقدر على فعله فيه ألد الأعداء
ما يبلغ الناس من جاهل .. ما يبلغ الجاهل من نفسه

فالجهل يدخل صاحبه النار:
كما قال تعالى عن أهلها: {وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب الجحيم.. فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير)(الملك) .. وقال تعالى عنهم أيضا: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}(الأعراف)

الجهل يقتل صاحبه:
ففي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام: [إنَّ رجلًا قتلَ تِسعةً وتِسعينَ نفسًا، ثمَّ عرضَتْ لهُ التَّوبةُ، فسألَ عن أعلَمِ أهلِ الأرضِ؟ فَدُلَّ علَى راهِبٍ، فأتاهُ، فقالَ: إنَّه قتلَ تِسعةً وتِسعينَ نفسًا، فهلْ لهُ مِن توبةٍ؟ فقال: لا، فَقَتلَه، فكَمَّلَ بهِ مائة، ثمَّ سألَ عن أعلَمِ أهلِ الأرضِ؟ فَدُلَّ على رجلٍ عالمٍ، فقال: إنَّه قتلَ مِائةَ نفسٍ، فهلْ لهُ من توبةٍ؟ قال: نعَمْ، ومَن يحولُ بينَه وبينَ التَّوبةِ؟ انطلقْ إلى أرضِ كَذا وكَذا، فإنَّ بِها أُناسًا يعبُدونَ اللهَ، فاعبُدِ اللهَ معهُمْ، ولا ترجعْ إلى أرضِكَ، فإنَّها أرضُ سَوءٍ، فانطلقَ حتَّى إذا نصف الطَّريق أتاه الموتُ، فاختصَمَتْ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ، وملائكةُ العَذابِ، فقالتْ ملائكةُ الرَّحمةِ: جاء تائبًا مُقبلًا بقلبِه إلى اللهِ تعالى، وقالتْ ملائكةُ العذابِ: إنَّه لَم يعمَلْ خيرًا قطُّ، فأتاهُم ملَكٌ في صورةِ آدَميٍّ، فجعَلوه بينَهم، فقالَ: قيسوا بينَ الأرضَيْنِ، فإلى أيَّتِهِما كان أدنى فهوَ لها، فقاسوا فوجَدوه أدنى إلى الأرضِ الَّتي أرادَ، فَقَبضَتُهُ ملائكةُ الرَّحمَةِ].

ومن عبر هذا الحديث ودروسه:
أنه ليس كل عابد عالما، بل كثير من العباد جهال، وإن ظن الناس فيهم العلم، فكثير منهم ليسوا كذلك.

. وفيه أن كثيرا من الناس ينخدع بكثرة العبادة عند إنسان، فيظن صاحبها عالما، فيقصده في المسائل ويدل السائلين عليه، والحق أنه ليس بهذا المكان ولا هو أهل لذاك المقام.

. وفيه أيضا بيان فضل العالم على العابد الجاهل: فبين العالم والجاهل كما بين السماء والأرض، وفضل العالم على الجاهل كفضل القمر على سائر النجوم؛ فالعالم يحيي الناس بعلمه، والجاهل يقتلهم بجهله، والعالم يدلهم على طريق الهدى والجاهل يهوي بهم في مهاوي الردى، وهذا يبني وذاك يهدم، وهذا يهدي وذاك يضل.. وشتان ما بين الرجلين:
النـاس من جـهـة التمـثال أكفـاء .. أبــوهـــم آدم والأم حـــواء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه .. والجاهلون لأهل العلم أعداء
فـفـز بعــلم تعــش حـيا به أبدا .. الناس موتى وأهل العلم أحياء

نعم الناس موتى وأهل العلم أحياء.. فالعلم حياة ونور، والجهل موت وظلمة على أصحابه قبل غيرهم؛ فالجهل موت قبل الموت:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله .. وأجسامهم قبل القبور قبور
وأرواحهم في وحشة من جسومهم .. وليس لهم قبل النشور نشور

الجاهل يقتل غيره:
وكما يقتل الجهل صاحبه، فكذلك يقتل الجاهل بجهله غيره:
روى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه بسند صححه الألباني عن جابر قال: "خرجنا في سفرٍ فأصابَ رجلا منا حجرٌ، فشجّهُ في رأسهِ، ثم احتلمَ، فسألَ أصحابه: هل تجدونَ لي رخصة في التيممِ؟ قالوا: ما نجدُ لك رخصةً وأنت تقدرُ على الماءِ. فاغتسلَ فماتَ. فلما قدمنا على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلكَ، فقال: قتلوهُ قتلهُم اللهُ! ألا سأَلوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاءُ العيّ السؤالُ.. إنما كان يكفيهِ أن يتيممَ ويعصرَ أو يعصبَ على جرحهِ خرقة، ثم يمسح عليهِا، ويغسل سائرَ جسدهِ].

الخوارج ومصيبة الجهل:
ومن أشهر الدلائل على أن الجهل يقتل أصحابه ويقتل غيرهم أيضا، ما كان من حال الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي رضي الله عنه بعد أن كفروه هو ومعاوية ومن معهما بحجة أنهما حكّما الحكمين؛ فقال الخوارج: حكموا الرجال في دين الله والله يقول {إن الحكم إلا لله}، ومقولات أخرى بان جهلهم فيها حينما حاورهم ابن عباس الحبر البحر فبين لهم جهلهم وسوء فهمهم، فرجع منهم ألفان، وقاتل الباقون عليا ومن معه فقتلهم جميعا في النهروان.

روى ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي مجلز قال: بينما عبد الله بن خباب في يد الخوارج إذ أتوا على نخل فتناول رجل منهم تمرة فأقبل عليه أصحابه فقالوا له: أخذتَ تمرةً مِن تمر أهل العهد !وأتوا على خنزير فنفخه رجل منهم بالسيف، فأقبل عليه أصحابه فقالوا له: قتلتَ خنـزيراً مِن خنازير أهل العهد؟! فقال عبد الله :ألا أخبركم مَن هو أعظم عليكم حقا مِن هذا؟ قالوا: مَن؟ قال: أنا!! ما تركتُ صلاة، ولا تركتُ كذا، ولا تركتُ كذا !!قال: فقتلوه""مصنف ابن أبي شيبة" (7/560).
وقال الحافظ ابن حجر :"فاستعرضوا الناس – أي : الخوارج - فقتلوا مَن اجتاز بهم من المسلمين، ومرَّ بهم عبد الله بن خباب بن الأرت.. ومعه سريَّة – أي: أمَة - وهي حامل فقتلوه، وبقروا بطن سريته عن ولد!
قال ابن أبي شيبة: فلما جاءهم عليٌّ قال: أقيدونا بعبد الله بن خباب، قالوا: كيف نقيدك به وكلنا شرك في دمه؟ فاستحل قتالهم.
قال ابن حجر: "فخرج إليهم (يعني سيدنا علي) في الجيش الذي كان هيأه للخروج إلى الشام فأوقع بهم بالنهروان، ولم ينج منهم إلا دون العشرة، ولا قتل ممن معه إلا نحو العشرة"." فتح الباري" (12/284).

والعجيب أنهم كانوا أهل عبادة وزهادة وحال من الاجتهاد حتى وصفهم النبي لأصحابه بقوله: [يحقرُ أحدكم صلاتَهُ مع صلاتهم، وصيامَهُ مع صيامِهم، يقرؤونَ القرآنَ لا يُجاوزُ تراقيهم، يمرقونَ من الدِّينِ كما يمرقُ السهمُ من الرَّمِيَّةِ].

وقد وصفهم ابن عباس حين ذهب ليحاورهم فقال: "فأتيت على قوم لم أر قط أشد منهم اجتهادا، جباههم قرحة من السجود، وأياديهم كأنها ثفن الإبل، عليهم قمص مرحضة، مشمرين مسهمة وجوههم من السهر"..

ومع ذلك لم تشفع لهم عبادتهم وقادهم جهلهم إلى قتل الناس حتى قال النبي عنهم [كلاب أهل النار]، لأن الجهل جعلهم [يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان].

وإنما اغتر كثير من الأغرار الذين مشوا مع قادتهم بما رأوه من كثرة صلاتهم، وطول وقوفهم فيها، وكثرة صيامهم، وظهور تزهدهم، وإعراضهم عن متاع الدنيا، فظنوا أنهم على رأي حسن وعلم جم طالما أنهم على تلك العبادة العظيمة.

أعظم الفتن:
ومن هنا كانت فتنة العابد الجاهل من أعظم الفتن، وهي داهية يضيع معها دين صاحبها ويضيع معه دين فئام من الناس.. كما اغتر الناس بكلام ملاحدة الصوفية وزنادقتهم والقائلين بالحلول والاتحاد وأنه لا فرق بين الرب والعبد.. كما قال ابن الفارض في تائيته التي يخاطب الله تعالى فيها بتاء التأنيث تعالى الله عن جهل الجاهلين علوا كبيرا .. فيقول:
ولولاي لم يوجــد وجـــود ولم يكـن .. شهــود ولم تعـهد عهود بذمة
ولا حـــي إلا من حـــياتي حــياتــه .. وطوع مرادي كل نفس مريدة
وكل الجهات السـت نحوي توجهت .. بما تم من نسك وحج وعمرة

إلى قوله:
لها صــلواتي في المقــام أقيـمها .. وأشــهد فيــها أنهـــا لي صــلت
ولم أر لي صلّى سواي ولم تكن .. صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

ومع هذا فهو عند القوم من أعظم أئمتهم وخلاصة أوليائهم، ومن خاصة الخاصة، كالموصوف بالكبريت الأحمر الذي أتى بالبهتان ونطق بالكفران حتى قال أئمتنا: "لو لم يكن ما يقوله ابن عربي كفر فليس على وجه الأرض كفر".

وإنما اغتر المغرورون بما كان عند هؤلاء من تعبد وتزهد، ونحول وذبول فخيل إليهم أن وراء هذه العبادة علما نافعا، وهديا قاصدا، وسنة متبعة، وسبيلا قويما، وصراطا مستقيما.. فاتبعوهم على أقوالهم فضلوا ضلالا مبينا. حالهم كما قال ابن القيم رحمه الله: "وهَؤُلَاءِ فتْنَة لكل مفتون، فان النَّاس يتشبهون بهم لما يظنون عِنْدهم من الْعلم وَيَقُولُونَ لسنا خيرا مِنْهُم وَلَا نرغب بِأَنْفُسِنَا عَنْهُم فهم حجَّة لكل مفتون"."مفتاح دار السعادة"

ولذلك قال الإمام الخطيب البغدادي رحمه الله في كتابه اقتضاء العلم العمل: "وَمَا شَيْءٌ أَضْعَفُ مِنْ عَالِمٍ تَرَكَ النَّاسُ عِلْمَهُ لِفَسَادِ طَرِيقَتِهِ، وَجَاهِلٍ أَخَذَ النَّاسُ بِجَهْلِهِ لِنَظَرِهِمْ إِلَى عِبَادَتِهِ".

ورحم الله سفيان الثوري حين قال: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ، فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة



الأكثر مشاهدة اليوم

خواطـر دعوية

المواساة خلق أهل المروءة

"المواساة" خلق نبيل، من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات التي دعا إليها الإسلام، وهو من أخلاق المؤمنين، وجميل...المزيد