الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

لا تَرْفعُوا أَصْوَاتَكُم فوْق صَوْت النَّبيّ

لا تَرْفعُوا أَصْوَاتَكُم فوْق صَوْت النَّبيّ

لا تَرْفعُوا أَصْوَاتَكُم فوْق صَوْت النَّبيّ

أوجب الله عز وجل على كل مسلم حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، وتوقيره والأدب معه، فقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ}(الفتح: 9)، قال السعدي: "أي: تعظموه وتُجِّلوه، وتقوموا بحقوقه صلى الله عليه وسلم، ومن حبه وتعظيمه صلى الله عليه وسلم الأدب معه، فالأدب معه صلى الله عليه وسلم أدب مع الله، إذِ الأدب مع الرسول هو أدب مع المُرْسِل سبحانه، كما أن طاعة الرسول طاعة لله تعالى، كما قال الله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً}(النساء:80)، فلا يُتصور محبته صلى الله عليه وسلم مع سوء أدب معه، ومن هنا قال ابن تيمية: "إن قيام المدحة والثناء عليه والتوقير له صلى الله عليه وسلم قيام الدين كله، وسقوط ذلك سقوط الدين كله".

ومن صور محبة النبي صلى الله عليه وسلم والأدب معه: عدم رفع الصوت فوق صوته، وذلك لأن رفع الصوت فوق صوته صلوات الله وسلامه عليه من أسباب حبوط الأعمال، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات:2)، وهذا ما خافه ثابت بن قيس رضي الله عنه على نفسه. فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد (لم يجد) ثابت بن قيس، فقال رجل: يا رسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكِّسا رأسه، فقال: ما شأنك؟ فقال شرٌ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل فأخبره أنه قال كذا وكذا، فقال موسى بن أنس: فرجع المرة الآخرة ببشارة عظيمة فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب إليه فقل له إنك لست من أهل النار ولكن من أهل الجنة) رواه البخاري.

وفي هذا الموقف النبوي مع ثابت بن قيس رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها:

حب النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وسؤاله عن أحوالهم:

مع شدة انشِغال النبي صلى الله عليه وسلم وكثرة وعظم مسئولياته فقد كان من هديه وسنته السؤال عمَّن غاب من أصحابه رضي الله عنهم، وله في ذلك الكثير من المواقف التي ذكرتها السيرة النبوية المشرفة والأحاديث الصحيحة، ومن ذلك سؤاله عن ثابت بن قيس رضي الله عنه لما افتقده، ففي رواية البخاري: (أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس)، وفي رواية مسلم: (فسأل النبي صلى الله عليه وسلّم سعد بن معاذ فقال: يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى؟ فقال سعد: إنه كان لجاري وما علمت له بشكوى)، وهذا يدل على مدى حب النبي صلى الله عليه وسلّم لأصحابه واعتنائه بهم، كما يدل على أن تَفَقُّدُ الغائب والسؤال عنه سُنَّة نبوية، وخُلُقٌ نبوي كريم، ربَّى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه عليه بقوله وفعله.

فضل ثابت بن قيس رضي الله عنه:

ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه كان خطيب الأنصار، وكان جهير الصوت، خاف على نفسه خوفاً شدياً أن يكون صوته علا فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون ممن قال الله عنهم: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات:2)، فاعتزل الناس وجلس في بيته منكس الرأس، قال راوي الحديث: (فوجده جالسا في بيته منكّسا رأسه)، وفي ذلك تعظيمه لأوامر الله عز وجل ونواهيه، وعظيم حبه وأدبه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وشدة خوفه أن يكون عمله قد حبط، مع أن هذه الآية إنما نزلت في حق من يرفعون أصواتهم فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلّم من غير قصد سوء الأدب معه، قال القرطبي في تفسيره لهذه الآية: "وليس الغرض برفع الصوت ولا الجهر ما يُقصد به الاستخفاف والاستهانة، لأن ذلك كفر، والمخاطبون مؤمنون".. وفي هذا الموقف من السيرة النبوية فضل عظيم لثابت رضي الله عنه، فقد بشره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه من أهل الجنة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكن من أهل الجنة).

عدم رفع الصوت فوق صوت النبي:

محبة النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره من أفضل شعب الإيمان، ومن أجلِّ أعمال القلوب، ومن حقه صلى الله عليه وسلم علينا أن نحقق محبته اعتقاداً وقولاً وعملاً، ونقدمها على محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين، ومن صور هذه المحبة عدم رفع صوتنا فوق صوته ـ حيا وميتا ـ، قال القاضي أبو بكر بن العربي: "حُرْمة النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً، وكلامه المأثور بعد موته في الرقعة مثال كلامه المسموع من لفظه، فإذا قرئ كلامه، وجب على كل حاضر ألا يرفع صوته عليه، ولا يُعرض عنه، كما كان يلزمه ذلك في مجلسه عند تلفظه به". وقال ابن عطية في تفسيره لهذه الآية: "وكره العلماء رفع الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم".
وقد سُئِل الشيخ ابن عثيمين: هل يشمل عدم رفع الصوت عند النبي صلى الله عليه وسلم ،عدم رفعه عنده بعد موته، أي: عند قبره؟، فأجاب: "رفع الصوت عند قبر الرسول عليه الصلاة والسلام يدخل في قوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ}(الحجرات:2)، وإن كُنّا لا نخاطبه لكن لا يليق أن ترتفع الأصوات عند قبره، ولهذا لما سمع عمر رضي الله عنه رجلين من الطائف يرفعان أصواتهما عند قبر النبي عليه الصلاة والسلام، سألهما وقال: "أتعلمان أين أنتما؟ ثم قال: من أي بلد أنتما؟ قالا: من الطائف، قال: لو كنتما من هذا البلد لفعلت كذا وكذا"، فدل هذا على أن من تمام الأدب ألا يرفع الإنسان صوته عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم". واعلم أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، وتوقيره وتعظيمه، لازم كما كان حال حياته، وذلك عند ذكره صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه وسيرته، وتعظيم أهل بيته وصحابته".

لا يُتصور ممن يحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن تنطلق جوارحه بطاعته واتباعه، واتخاذه قدوة وأسوة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}(آل عمران:31)، وقال سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(الأحزاب: 21)، كما لا يتصور ممن يحب النبي صلى الله عليه وسلم إلا الأدب معه، والذي من صوره ومظاهره خفض الصوت عنده، كما قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}(الحجرات:2)، وهذا ما ظهر في موقف ثابت بن قيس رضي الله عنه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي موقف عمر رضي الله عنه مع الرجلين اللذين رفعا أصواتهما في المسجد النبوي وكان ذلك بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه.. قال ابن القيم في مدارج السالكين: "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم: أن لا تُرفع الأصوات فوق صوته فإنه سبب لحبوط الأعمال، فما الظن برفع الآراء ونتائج الأفكار على سنته وما جاء به؟!، أترى ذلك موجباً لقبول الأعمال، ورفع الصوت فوق صوته موجباً لحبوطها؟!".

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة