الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم

إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم

إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم

في سورة النساء آية تتوعد من ترك الهجرة حفاظاً على دينه وإيمانه، مُؤْثِراً أرضه على دينه، يقول عز من قائل: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا} (النساء:97). جاء في سبب نزول هذه الآية روايتان:

الرواية الأولى: روى البخاري والنسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (إن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم فيرمى، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضربه فيقتله، فأنزل الله تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} هذه الرواية أصح ما جاء في سبب نزول هذه الآية.

وجاءت هذه الرواية عند البزار والطبري وابن أبي حاتم في "تفسيره" أكثر تفصيلاً، وفيها، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان ناس من أهل مكة أسلموا، وكانوا مستخفين بالإسلام، فلما خرج المشركون إلى بدر؛ أخرجوهم مكرهين، فأصيب بعضهم يوم بدر مع المشركين، فقال المسلمون: أصحابنا هؤلاء مسلمون، أَخْرَجُوهم مكرَهين، فاستغفروا لهم؛ فنزلت هذه الآية: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم} فكتب المسلمون إلى من بقي منهم بمكة بهذه الآية، فخرجوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق؛ ظهر عليهم المشركون؛ فلحقوهم، فردوهم، فرجعوا معهم؛ فنزلت هذه الآية: {ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله} (العنكبوت:10) فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا؛ فنزلت هذه الآية: {ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم} (النحل:110) فكتبوا إليهم بذلك. قال الهيثمي: "روى البخاري بعضه، ورواه البزار، ورجاله رجال الصحيح". وسكت عن هذه الرواية الحافظ ابن حجر في "الفتح".

الرواية الثانية: روى ابن أبي حاتم عن السدي، قال: لما أُسر العباس وعقيل ونوفل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: (افدِ نفسك وابنَ أخيك) قال: يا رسول الله! ألم نصل قبلتك، ونشهد شهادتك؟ قال: (يا عباس! إنكم خاصمتم، فخصمتم). ثم تلا عليه هذه الآية: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}.

وقد أورد هذا الحديث في سبب نزولها الطبري، والقرطبي، وابن كثير، وابن عاشور، وغيرهم من المفسرين.

والمتأمل في الآية والحديث يجد أن الآية تتحدث عن الهجرة فحسب، بقوله سبحانه: {ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها} بينما الحديث يزيد على ذلك ذكر القتال لقوله: (فيأتي السهم...) إلى آخره.

ولهذا قصر السعدي الوعيد في الآية على ترك الهجرة موافقة للآية، فقال: "هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات، فإن الملائكة الذين يقبضون روحه، يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم، ويقولون لهم: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثَّرتم سوادهم، وربما ظاهرتموهم على المؤمنين، وفاتكم الخير الكثير والجهاد مع رسوله، والكون مع المسلمين، ومعاونتهم على أعدائهم، فحيثما كان العبد في محل، لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متَّسَعَاً وفسحة من الأرض، يتمكن فيها من عبادة الله، كما قال تعالى: {يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون} (العنكبوت:56).

وقد ذهب أكثر المفسرين إلى أن الآية نزلت في قوم آمنوا بمكة، ولم يهاجروا إلى المدينة، مع قدرتهم على ذلك، فمنهم من مات بمكة، ومنهم من خرج به المشركون إلى بدر قهراً، فقُتل هناك.

قال الطبري: "وذكر أن هاتين الآيتين -يعني الآية التي معنا والتي بعدها- والتي بعدهما نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا، وآمنوا بالله ورسوله، وتخلفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرض بعضهم على الفتنة فافتُتن، وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبراً عنهم: {قالوا كنا مستضعفين في الأرض}.

وقال البغوي: "نزلت في ناس من أهل مكة تكلموا بالإسلام، ولم يهاجروا، منهم فلان، وفلان، فلما خرج المشركون إلى بدر، خرجوا معهم، فقُتلوا مع الكفار".

وقال ابن عطية: "المراد بهذه الآية جماعة من أهل مكة كانوا قد أسلموا وأظهروا للنبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أقاموا مع قومهم، وفُتن منهم جماعة، فافتُتنوا، فلما كان أمر بدر خرج منهم قوم مع الكفار، فقُتلوا ببدر، فنزلت الآية فيهم".

وما ذكره المفسرون يتفق مع الرواية التي تبين سبب النزول.

والظاهر أن في سبب النزول اختصاراً ومحل هذا الاختصار قصة خروج المسلمين مع المشركين يوم بدر؛ لأن الحديث نص في أن السهم يُرمى، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، وعليه، فإما أن يكون هؤلاء القتلى المذكورون في الحديث مسلمين، يقاتلون في جيش المسلمين فهم شهداء، لا يستحقون التثريب والعتاب، بل حقهم الثناء والثواب، وهذا ما لم تدل عليه الآية.

وإما أن يكون هؤلاء مسلمين، خرجوا في جيش المشركين فقُتلوا، فاستحقوا التقريع والتوبيخ. وهذا الذي دلت عليه الآية بقوله سبحانه: {ظالمي أنفسهم} وبقوله: {فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}.

فإن قال قائل: الآية لم تتحدث عن خروجهم مع المشركين إلى بدر وإنما تحدثت عن تركهم الهجرة.

قيل له: إن هذا صحيح؛ لأن أصل المعصية هو تركهم الهجرة، فلو كانوا قد هاجروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة ما استطاع المشركون إكراههم على الخروج معهم، ولم يكن لهم سبيل إلى ذلك، فالآية تحدثت عن أصل الذنب، وتركت ما ترتب عليه.

والحاصل، أن سبب نزول الآية الكريمة حديث ابن عباس المذكور لصحة سنده، وتصريحه بالنزول، واتفاق جمهور المفسرين على القول به، وعدم اختلافه مع لفظ الآية.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة