الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

يا ربيعةُ ألا تَزَوَّجُ ؟

يا ربيعةُ ألا تَزَوَّجُ ؟

يا ربيعةُ ألا تَزَوَّجُ ؟

ما مِن خصلة من خصال الخير إلا ولرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أوفر الحظ والنصيب منها، وقد وصفه الله تعالى بلين الجانب لأصحابه فقال: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ }(آل عمران: من الآية: 159) .
والمتأمل في السيرة النبوية تستوقفه مواقف كثيرة، يظهر فيها حب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه، وحسن معاملته لهم، والاهتمام بهم، فكان يؤلفهم ولا ينفرهم، ويتفقدهم ويعودهم، ويعطى كلَّ مَنْ جالسه نصيبه من العناية والاهتمام، حتى يظن جليسه أنه ليس أحدٌ أكرم منه، وكان يقضي حوائجهم، ويشفق عليهم، ويشعر بآلامهم وآمالهم، ومن هذه المواقف: موقفه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ربيعة بن كعب الأسلمي الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ .

عن ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: ( كنت أخدم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال لي: يا ربيعة ألا تزوج؟، قال: قلت: والله، يا رسول الله، ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، فخدمته ما خدمته، ثم قال لي الثانية: يا ربيعة، ألا تزوج؟، فقلت: ما أريد أن أتزوج، ما عندي ما يقيم المرأة، وما أحب أن يشغلني عنك شيء، فأعرض عني، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: والله، لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني، والله، لئن قال: تزوج، لأقولن: نعم يا رسول الله، مرني بما شئت .
قال: فقال: يا ربيعة، ألا تزوج؟، فقلت: بلى، مرني بما شئت، قال: انطلق إلى آل فلان، حي من الأنصار، وكان فيهم تراخ عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقل لهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، لامرأة منهم، فذهبت، فقلت لهم: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أرسلني إليكم، يأمركم أن تزوجوني فلانة، فقالوا: مرحبا برسول الله، وبرسول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والله، لا يرجع رسولُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بحاجته، فزوجوني وألطفوني، وما سألوني البينة .
فرجعت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حزيناً، فقال لي: ما لك يا ربيعة؟، فقلت: يا رسول الله، أتيت قوما كراما، فزوجوني وأكرموني وألطفوني، وما سألوني بينة، وليس عندي صداق، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: يا بريدة الأسلمي، اجمعوا له وزن نواة من ذهب، قال: فجمعوا لي وزن نواة من ذهب، فأخذت ما جمعوا لي، فأتيت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: اذهب بهذا إليهم، فقل: هذا صداقها، فأتيتهم، فقلت: هذا صداقها، فرضوه وقبلوه، وقالوا: كثير طيب .
قال: ثم رجعت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حزيناً، فقال: يا ربيعة، ما لك حزين؟، فقلت: يا رسول الله، ما رأيت قوما أكرم منهم، رضوا بما آتيتهم، وأحسنوا، وقالوا: كثيراً طيباً، وليس عندي ما أولم، قال: يا بريدة، اجمعوا له شاة، قال: فجمعوا لي كبشا عظيما سمينا، فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: اذهب إلى عائشة، فقل لها: فلتبعث بالمكتل الذي فيه الطعام، قال: فأتيتها، فقلت لها ما أمرني به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقالت: هذا المكتل فيه تسع آصع شعير، لا والله، إن أصبح لنا طعام غيره، خذه، فأخذته، فأتيت به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبرته بما قالت عائشة، فقال: اذهب بهذا إليهم، فقل: ليصبح هذا عندكم خبزاً، فذهبت إليهم، وذهبت بالكبش، ومعي أناس من أسلم، فقال: ليصبح هذا عندكم خبزا، وهذا طبيخا، فقالوا: أما الخبز فسنكفيكموه، وأما الكبش فاكفونا أنتم، فأخذنا الكبش، أنا وأناس من أسلم، فذبحناه وسلخناه وطبخناه، فأصبح عندنا خبز ولحم، فأولمت، ودعوت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَأَجَابَنِي
) رواه أحمد .

وفي موقف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع ربيعة بن كعب الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ الكثير من الفوائد، منها:

ـ اهتمام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأصحابه ـ لا سيما الفقراء منهم ـ، وحرصه عليهم، وتلمس احتياجاتهم، وشفقته بهم، وصدق الله ـ تعالى ـ في قوله عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }(التوبة الآية: 128)، وفي ذلك تعليم للأمة على اهتمام المسؤول برعيته .
ـ معرفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأحوال أصحابه واحتياجاتهم، وبما يصلح لهم دنياهم وآخرتهم، فقد قال لربيعة ـ رضي الله عنه ـ: ( يا ربيعةُ ألا تَزَوَّجُ؟ )، كما أن فيه رجاحة عقل ربيعة ـ رضي الله عنه ـ، وثقته ويقينه في حكمة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ويظهر ذلك من قوله ـ رضي الله عنه ـ ( والله لرسول الله ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ بما يصلحني في الدنيا والآخرة أعلم مني ) .
ـ سرعة استجابة أهل البنت لأمر النبي ـ صلّى الله عليه وسلّم ـ وفرحهم بذلك واعتبارهم له بركة وكرم، وقولهم: ( مرحبا برسول الله، وبرسول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والله، لا يرجع رسولُ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بحاجته، فزوجوني وألطفوني )، وفي ذلك منقبة عظيمة من مناقب الأنصار تضاف إلى مناقبهم ـ رضي الله عنهم ـ الذين مدحهم الله ـ عز وجل ـ بقوله: { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ }(الحشر الآية: 9) .
ـ استجابة الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ وتعاونهم في جمع المهر وإقامة ولية زواج ربيعة ـ رضي الله عنه ـ تعطي صورة المجتمع المسلم في المدينة المنورة، والذي قام على السمع والطاعة للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، والأخوة والإيثار والتكافل الاجتماعي .

لم يكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعيش بعيداً عن أصحابه، بل كان يتفقدهم ويسأل عنهم، فما أن يفتقد أحدهم ويغيب عن مجلسه إلا ويسأل عنه، فإن كان مريضاً سارع إلى عيادته، وإن كان مسافراً خَلَفَه في أولاده، وإن كان في حاجة سارع إلى قضائها له، فكان مع أصحابه بمثابة الأب الحاني، والصاحب المعطاء، يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، ويشاركهم مشكلاتهم ويعينهم على حلها، ويقترح عليهم ما يصلح شأنهم، ويعلمهم ما ينفعهم، ولا يضجر من مساعتهم، وقد قال عنه صاحبه وزوج ابنتيه وخليفته عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ: " لقد صحبنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في السفر والحضر، وكان يعود مرضانا، ويتبع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير " .

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة