الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

اليسر في الدين.. مقصد وغاية شرعية

اليسر في الدين.. مقصد وغاية شرعية

اليسر في الدين.. مقصد وغاية شرعية

يعلم القاصي والداني من أهل القبلة أن الإسلام دين يسر لا عسر، وأن التكليف فيه على قدر الاستطاعة، وأنه لا مشقة غير مُستطاعة في شرع الله -عز وجل. وهي مزية اختص الله بها أهل الإسلام والإسلام عن باقي الأمم والديانات، ولذا ظل الإسلام باقياً إلى يومنا هذا، وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ لأنه موعود الله تعالى، وموعود رسوله -صلى الله عليه وسلم.

يقول الله تعالى: {اليَومً أَكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وأَتْمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِينَاً} (المائدة: 3). "فهذه الآية الكريمة تشير إلى ختم الله -عز وجل- الأديان بدين الإسلام، وهذا يعني أيضاً أن الله سيحفظ أمة الإسلام وسيبقيها ظاهرة على غيرها؛ لأنها هي الحاضنة والحاملة له، مهما تعاقب الليل والنهار، ومهما كاد لها الأعداء"(1).

وعن معاوية -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِن أُمَّتِي قَائِمَةً بأَمرِ الله، لا يَضُرُّهُم مَن خَذلَهُم أَو خَالَفَهُم، حَتَّى يأتِيَ أَمرُ الله وهُم ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ)(2).

فمن أدل الدلائل على استمرارية الإسلام وبقائه إلى آخر الزمان ما يتمتع به هذا الدين الحنيف من يسر وسماحة ومرونة في أوامره وأحكامه وشريعته بصفة عامة، وهو الأمر الذي دفع الناس إليه دفعاً من كل حدب وصوب، وجعلهم يدخلونه طواعية دون إكراه عن قناعة وإيمان شديدين.

فـ"هذه هي القاعدة الكبرى في تكاليف هذه العقيدة كلها، فهي ميسرة لا عسر فيها، وهي توحي للقلب الذي يتذوقها، بالسهولة واليسر في أخذ الحياة كلها، وتطبع نفس المسلم بطابع خاص من السماحة التي لا تكلف فيها ولا تعقيد. سماحة تؤدى معها كل التكاليف، وكل الفرائض، وكل نشاط الحياة الجادة، وكأنما هي مسيل الماء الجاري، ونمو الشجرة الصاعدة في طمأنينة وثقة ورضاء، مع الشعور الدائم برحمة اللّه وإرادته اليسر لا العسر بعباده المؤمنين"(3).

لكن إشكالاً حصل لدى البعض ففهم اليسر على غير حقيقته، مما دفعه إلى إهمال الكثير من الأحكام والأوامر الشرعية طلباً لليسر؛ بل رأينا من يدعو الناس إلى ترك كثير من الأوامر الإلهية بحجة التيسير والتخفيف عن الناس، مدعياً أن العبرة بأعمال القلوب لا الأبدان، وإصلاح النوايا لا أداء الفرائض والسُنن، حتى صارت قاعدة التيسير عند البعض ذريعة للتفريط والتقصير، بل الانسلاخ من دين الله بالكليّة.

لهذا وجب علينا بيان المراد بالتيسير، أو اليسر في الدين، هل يعني ترك التكاليف وإهمال الشرع والسعي خلف ملذات الدنيا ومُلهياتها؟ أم للأمر ضابط يحكمه، وقاعدة تضبط مساره؛ حتى لا يمتهن الدين، ويضيع كما ضاع غيره من الأديان؟

فاليسر في حقيقته لا يعني إطلاق الإنسان من كل قيد شرعي، وإعفائه من كل تكليف ومشقة، بل هو "رحمة من الله بعباده فلم يكلّفهم بما لا يطيقون، وهو أيضاً يسدّ الذرائع ويقطع الطريق على المتهاونين، حيث لابد من امتثال أمر الله، فمن لم يستطع أن يصلي قائماً صلّى جالساً أو مضطجعاً، وبذلك يتحقق الإتيان بالمأمور به، ولكن بالكيفية التي لا مشقة فيها، فالتيسير إذاً يلغي عذر من يحاول التضييع، ويقطع أسباب التملّص والإهمال، ولا يدع للمتهاون حجّة، وأمامه الرخصة بدلاً من العزيمة، فالتيسير إذاً هو من باب الحرص على أداء الفرائض، ولا يعني رفعُ الحرج الإعفاء من بذل أي جهد، وإنما الإعفاء مما في بذله مشقة وجهد غير عادي"(4).

وعلى هذا فاليسر في الإسلام هو: "تشريع الأحكام على وجه روعيت فيه حاجة المكلف، وقدرته على امتثال الأوامر واجتناب النواهي، مع عدم الإخلال بالمبادئ الأساسية للتشريع"(5).

ولنضرب لذلك مثالاً بالصيام، وهو الفريضة التي نزلت فيها أية اليسر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ ولَا يُرِيدُ بِكُم العُسرَ} (البقرة: 185). فقد رخَّص الله للمريض والمسافر الفطر في رمضان بشرط القضاء؛ فعلى الرغم مما في الصيام من مشقة إلا أنه فريضة يعاقب تاركها بلا عذر، وعليه فليس المقصود باليسر نفي كل مشقة، بتعطيل الفرائض، وإنما يراد به حقيقة "فـعل ما يحقق الغاية بأدنى قدر من المشقة"(6).

قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لآية اليسر: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسرَ..}: "إنما رخَّصَ لكم في الفطر في حال المرض وفي السفر، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح، تيسيرًا عليكم ورحمة بكم"(7).

وقال الشيخ السعدي -رحمه الله- في تفسيره: "أي: يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير، ويسهلها أشد تسهيل، ولهذا كان جميع ما أمر الله به عباده في غاية السهولة في أصله. وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله، سهَّله تسهيلاً آخر، إما بإسقاطه، أو تخفيفه بأنواع التخفيفات. وهذه جملة لا يمكن تفصيلها، لأن تفاصيلها، جميع الشرعيات، ويدخل فيها جميع الرخص والتخفيفات"(8).

مما سبق يُعلم أنَّ اليسر غاية عليا من غايات الشريعة، ومقصد كريم من مقاصدها، وهو أساس وقاعدة لكل أمر شرعي تكليفي، ولهذا تكثر الإشارات الدالة على ذلك في كتاب ربنا وسنة نبيِّنا -صلى الله عليه وسلم.

فمن الإشارات القرآنية على أن اليسر مقصد شرعي، قوله تعالى: {ومَا جَعَلَ عَلَيكُم فِي الدِّين مِن حَرَجٍ} (الحج: 78)؛ وقوله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُم وخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} (النساء: 28)؛ وقوله سبحانه: {لَا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفساً إِلاَّ وُسعَهَا} (البقرة: 286).

ومن أقوال النبي -صلى الله عليه وسلم- الدالة على يسر الشريعة قوله: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)(9). وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما خُيِّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً"(10). وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إن الله لم يبعثني معنتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً)(11).

إلى جانب ما سبق فالواقع التشريعي العملي يثبت بما لا يدع مجالاً للأخذ والرد والشك يسر الدين الإسلامي، ومرونته في أحكامه وتكاليفه، والفقه الإسلامي بما فيه من استنباطات وآراء يؤكد هذا ويزيده وضوحاً وبياناً.

ومن الأمور المحمودة في الإسلام -إلى جانب يسر التكاليف الشرعية العملية- يسر عقيدته، وخلوها من أية تعقيدات، كما نرى في غيره من الديانات والملل التي يصعب فهم معتقدها حتى على معتنقيها، مما جعلهم يقسمون الناس تبعاً لفهموهم العقدية إلى خواص (يدركون دقائق الشريعة وبواطنها)، وجمهور أو عوام (يحتاجون إلى واسطة بشرية للفهم والعبادة).

فعن يسر العقيدة الإسلامية وخلوها من التعقيد يقول الشاطبي رحمه الله: "ومنها أن تكون التكاليف الاعتقادية والعملية مما يسع الأمي تعقلها، ليسعه الدخول تحت حكمها؛ أما الاعتقادية فأن تكون من القرب للفهم والسهولة على العقل بحيث يشترك فيها الجمهور؛ من كان منهم ثاقب الفهم، أو بليداً، فإنها لو كانت مما لا يدركه إلا الخواص لم تكن الشريعة عامة، ولم تكن أميَّة، وقد ثبت كونها كذلك، فلا بد أن تكون المعاني المطلوب علمها واعتقادها سهلة المأخذ، وأيضا فلو لم تكن كذلك لزم بالنسبة إلى الجمهور تكليف ما لا يطاق، وهو غير واقع كما هو مذكور في الأصول، ولذلك تجد الشريعة لم تعرف من الأمور الآلهية، إلا بما يسع فهمه وأرجت غير ذلك فعرفته بمقتضى الأسماء والصفات، وحضت على النظر في المخلوقات إلى أشباه ذلك، وأحالت فيما يقع فيه الاشتباه على قاعدة عامة، وهو قوله تعالى: {لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ}، وسكتت عن أشياء لا تهتدي إليها العقول"(12).

من كل ما سبق يتبيَّن للقارئ الكريم عظم ما تحويه شريعتنا الغراء من تيسيرات وتخفيفات قصدها الشارع لأجل التخفيف عن الإنسان، ولأجل حصول المصلحة الدنيوية له، ولأجل غاية الغايات؛ وهي تعبيد الناس لربهم، وإزالة كل عائق أمام هذه الغاية السامية والمنزلة الرفيعة التي ما بعدها غاية أو منزلة.

هوامش المقال
(1) الأدلة القرآنية الدالة على ظهور الإسلام وعودته وسيادته- حامد شاكر العاني- شبكة الألوكة:

http://www.alukah.net/sharia/0/74349/.

(2) متفق عليه، البخاري: (3442)، ومسلم: (1037).

(3) في ظلال القرآن، سيد قطب: ج1/172.

(4) مظاهر التيسير ورفع الحرج في الشريعة الإسلامية، د. فرج على الفقيه حسين: ص11.

(5) مظاهر التيسير في الشريعة الإسلامية، كمال جودة أبو المعاطي: ص7.

(6) مفهوم اليسر في الدين، د. جعفر شيخ إدريس، مجلة البيان:

http://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=1149

(7) تفسير القرآن العظيم لابن كثير: ج1/503.

(8) تفسير السعدي: ص86.

(9) رواه البخاري: برقم (39).

(10) متفق عليه، البخاري: (3367)، مسلم: (2327).

(11) رواه مسلم: برقم (1478).

(12) الموافقات للشاطبي: ج2/88- 89.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة