الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حديث المسيء صلاته وما تعلق به من أحكام

حديث المسيء صلاته وما تعلق به من أحكام

حديث المسيء صلاته وما تعلق به من أحكام


تدور بعض الأحاديث على ألسنة الفقهاء استدلالا واستنباطا، ويرجع ذلك لكونها أصلا في باب من الأبواب، أو لجمعها أمهات المسائل وأعيانها، فيجري عليها عمل الكافة من أهل العلم، وتتوارد عليها أفهام العلماء واجتهاداتهم، فيتحصل منها أحكام كثيرة، وقد كثرت إطلاقات العلماء على بعض الأحاديث أنها من أصول التشريع، وأعمدة الدين، ففي السنة حديث اشتهر بلقب "المسيء صلاته"، وتناوله الفقهاء بالدراسة الفقهية، والاستنباط العملي، فصار أصلا لكثير من أحكام الصلاة،


في البخاري عن أبي هريرة: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد، فدخل رجل، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فرد النبي -صلى الله عليه وسلم- عليه السلام، فقال: «ارجع فصل فإنك لم تصل»، فصلى، ثم جاء، فسلم على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: «ارجع فصل، فإنك لم تصل» ثلاثا، فقال: والذي بعثك بالحق، فما أحسن غيره، فعلمني، قال: «إذا قمت إلى الصلاة، فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها».

وأخرجه مسلم أيضا وفيه: «إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر».
وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد، وغيرهم بألفاظ متقاربة وفيها: «فَإِنْ كَانَ مَعَكَ قُرْآنٌ فَاقْرَأْ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت وَإِلَّا فَاحْمَدِ اللَّهَ وَكَبِّرْهُ وَهَلِّلْهُ، ثُمَّ ارْكَعْ فَاطْمَئِنَّ رَاكِعًا اجعل راحتيك على ركبتيك وامدد ظهرك ومكن لركوعك ثُمَّ اعْتَدِلْ قَائِمًا فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها وفي رواية: ثم ارفع حتى تطمئن قائما ثُمَّ اسْجُدْ فَاعْتَدِلْ سَاجِدًا وفي رواية: ثم إذا أنت سجدت فاثبت وجهك ويديك حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه ثُمَّ اجْلِسْ على فخذك اليسرى فَاطْمَئِنَّ جَالِسًا ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ثُمَّ قُمْ ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّتْ صَلَاتُكَ وَإِنِ انْتَقَصْتَ مِنْهُ شَيْئًا انْتَقَصْتَ مِنْ صَلَاتِكَ» قَالَ: وَكَانَ هَذَا أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَوَّلِ، أَنَّهُ مَنِ انْتَقَصَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا انْتَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلَمْ تَذْهَبْ كُلُّهَا.

يعتبر هذا الحديث من الأحاديث الدائرة على ألسنة الفقهاء واستدلالاتهم في كتاب الصلاة، بل هو عمدة استنباطاتهم لكثير من أحكامها؛ لاشتماله على وصف كامل لأهم أعمال الصلاة، حتى قال بعض الفقهاء إن كل ما ورد في هذا الحديث واجب، وما لم يذكر فيه فليس بواجب، قالوا: لأن الموضع موضع تعليم، وبيان للجاهل، وتعريف لواجبات الصلاة، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر، وقد يرد على هذا أن الحديث غير حاصر لكل واجبات وأركان الصلاة، فلم يذكر فيه التشهد الأخير، والجلوس فيه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام في آخر الصلاة، وقد ناقش ذلك ابن دقيق العيد في كتابه "إحكام الأحكام" وأفاض في مناقشة طرق الفقهاء في الاستدلال بالحديث مناقشة أصولية تفي بالمقصود.

إضافة إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يقتصر فيه على بيان ما أساء فيه من الصلاة، بل ذكره وغيره، وهذا يؤكد ما سبق من أن الحديث بيان للواجبات دون سواها وانحصارها في المذكورات، ولأجل هذا يتمسك بعض الفقهاء بهذا الحديث في أي موضع اختلف في وجوبه، فإن كان مذكورا في الحديث قال بوجوبه وإلا فلا، كالقول بعدم وجوب الإقامة ودعاء الاستفتاح في الصلاة مثلاً؛ لعدم ذكرهما في الحديث.

فظهر أن حديث المسيء صلاته من العُمَد التي يكثر الاستدلال به عند الفقهاء، فكل لفظ فيه يدل على ركن من أركان الصلاة.
قوله:« فكبر»، يدل على أن الشروع في الصلاة لا يكون إلا بالتكبير، وهو فرض بلا خلاف.
قوله:« ثم اقرأ» ، يدل على أن القراءة فرض في الصلاة.
قوله: « ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» ظاهره إجزاء قراءة غير الفاتحة، وليس كذلك، بل تتعين الفاتحة بأدلة أخرى تقيد هذا الإطلاق كحديث الصحيحين: « لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»، وهناك وجوه أخرى للجمع بين هذا الحديث والأحاديث التي تدل على تعين قراءة الفاتحة.
قال النووي: أما حديث: «اقرأ ما تيسر»، فمحمول على الفاتحة فإنها متيسرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عجز عن الفاتحة، ويدل لهذه الاحتمالات ما ورد في بعض طرق الحديث عند ابن حبان: «ثم اقرأ بأم القرآن , ثم اقرأ بما شئت» وفي رواية في مسند أحمدفإن كان معك قرآن فاقرأ به، وإلا فاحمد الله وكبره وهلله».

قوله: « ثُمَّ اسْجُدْ فَاعْتَدِلْ سَاجِدًا » يدل على وجوب السجود.

قوله: «حتى تطمئن» في الركوع والسجود يدل على وجوب الطمأنينة فيهما.
قال النووي: وفيه دليل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، والجلوس بين السجدتين، وهذا مذهبنا، ومذهب الجمهور، ولم يُوجِبهَا أبو حنيفة وطائفة يسيرة. وهذا الحديث حجة عليهم وليس عنه جواب صحيح.

قوله: «ثم إذا أنت سجدت فاثبت وجهك ويديك حتى يطمئن كل عظم منك إلى موضعه» يدل على وجوب السجود على أعضاء السجود وقد ذكر منها الوجه (الجبهة والأنف) واليدين.

قوله: «ثُمَّ اجْلِسْ على فخذك اليسرى فَاطْمَئِنَّ جَالِسًا» دال على وجوب الجلوس بين السجدتين.

قوله: «فإذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد» يدل على وجوب التشهد والجلوس له.

قال الخطابي في قوله: «وافعل ذلك في صلاتك كلها» دليل على أن عليه أن يقرأ في كل ركعة، كما كان عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة.

قوله: «ارجع فصل فإنك لم تصل» دليل على وجوب الإعادة على من أخلَّ بشيء من واجبات الصلاة كما قال ابن حجر.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة