الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعداء الأطفال في رمضان !!

أعداء الأطفال في رمضان !!

أعداء الأطفال في رمضان !!

ذهبت لأداء العمرة بصحبة زوجها، وبعد أن انتهت من الطواف حاولت الدخول بين صفوف النساء لأداء صلاة العشاء، ففوجئت بعنفٍ لم تفهم سببه من النساء، خاصةً كبيرات السن منهن، وتعجبت من رفض كل امرأة تحاول أن تقف بجوارها لتؤدي فرض ربها، وبعد محاولات شتى نجحت في الوقوف بصعوبة بجوار إحداهن، بعد أن فاتتها ركعتان كاملتان من الصلاة. بعد انتهائها من صلاتها فوجئت بالمرأة التي تجاورها تمطرها بوابلٍ من الانتقادات اللاذعة؛ لأنها تجرَّأت ودخلت بين الصفوف حاملةً ابنها الصغير ذا العامين، وتقول لها بلهجة شديدة: «طالما أنكِ لا تستطيعين ترك طفلك في البيت، ولا تجدين من يرعاه في غيابك، فكُفِّي عنا أذاكِ وامكثي في بيتك؛ فهذا أكرم لكِ». كادت تبكي من حدَّة المرأة معها، وأثناء حديثها بدأت تسترجع كيف أنها حوربت وأوذيت من نساء ما جئن إلا لطلب الأجر والمثوبة في حرم الله، فتلك تمنعها بقسوة بالغة، وأخرى تضربها بقوة ضربةً كادت توقعها أرضًا هي وصغيرها، وهذه الأخيرة التي كانت أكثر النسوة إيذاءً لها.

وإذا أردت الحديث عن أعداء الأطفال في المساجد، خاصةً في شهر رمضان، فحدِّث ولا حرج، فهذا خطيبٌ يعتلي المنبر يصرخ بأعلى صوته: «ارحمونا من أطفالكم، واتركوهم في بيوتكم. من لها طفل لا تأتي المسجد، بارك الله فيكن». وآخر يأمر المشـرفات على تنظيم صلاة التراويح بمنع كل امرأة تحمل طفلًا أو بيدها ابنتها التي لم تُكلَّف بعدُ من الدخول بين صفوف النساء، وتلك مشـرفة تمسك عصًا غليظة وتقف على باب مسجد النساء، تمنع كل صغيرة تحاول الوقوف بجوار أمها لتصلي، وتراها تجمع الصغيرات في غرفة مهملة في المسجد أو في الساحة الخارجية حيث حرارة الجو والمكان غير الملائم للجلوس، وتقف بعصاها على رؤوس الصغار كالجلاد، فلا ترى إلا وجوهًا حزينة وأعينًا دامعة، ينظرون إليها نظرة خوف وترقُّب.

ولئن نسيت في حياتي، فلن أنسى منظر تلك المرأة التي وقفت تصـرخ بأعلى صوتها وسط صفوف النساء، أثناء استراحتنا بعد الركعة الرابعة من صلاة التراويح، وهي تنظر بحدَّة لطفلٍ رضيعٍ نائم وضعته أمه أمامها أثناء الصلاة، ولصغيرة تجلس أمام أمها بهدوء تام وتحمل دُميتها في حجرها. قالت المرأة بلهجة حازمة وعنيفة: «من معها طفل تخرج فورًا من المسجد، ارحمونا من أطفالكن، جلوسكن في بيوتكن أكرم لكن»، ثم التفتت إلى أمِّ الرضيع التي كانت تجلس بجوارها، وبدأت تنهال عليها بالاتهامات الجارحة بأنها لا تراعي مشاعر المسلمين، وأنها تعرِّض أعمالها لعدم القبول؛ فلا يجوز لها أن تأتي المسجد بهذا الرضيع؛ لأنها بذلك تؤذي جاراتها المصليات، وتقول لها: «شغلتِني بصغيرك»، والأم تستمع إليها وهي مُطرِقة. وبعد أن انتهت صاحبتنا من خطبتها، سألتها الأم بانفعالٍ بالغ: «هل طفلي النائم آذاكِ أو آذى جاراتك؟ ليس لكِ أن تمنعي أي امرأة منا من بيت الله، سأكمل صلاتي وأدعو عليكِ لقسوتك وغلظتك معي، ولظلمك لصغيري»، ثم انهمرت في البكاء. الأمر العجيب في القصة أن المسجد كان هادئًا تمامًا؛ فالأطفال هادئون، والصغيرات يصلين بجوار أمهاتهن، ولم يشوِّش علينا ويشغلنا عن صلاتنا إلا صاحبتنا تلك التي أصدرت فتوى ما أنزل الله بها من سلطان في حق كلِّ امرأةٍ أرادت عدم الاستسلام لكسلها، وعدم تضييع وقت الصلاة أمام الملهيات، وما أكثرها في هذه الأيام! وآثرت اغتنام الأوقات والتعبُّد مع المسلمين؛ علَّها تكون من الفائزين في هذا الشهر الكريم.

والسنة المطهَّرة مليئةٌ بالأحاديث الصحيحة التي توضِّح رفق النبيِّ – صلى الله عليه وسلم- بالصغار واهتمامه بهم أثناء الصلاة، بل أثناء خطبة الجمعة، فنراه ينزل عن منبره لما أقبل الحسن والحسين يعثران ويقومان، ثم يصعد بهما المنبر، ويقول: «... رأيت هذين يعثران في قميصيهما فلم أصبر، حتى قطعتُ كلامي فحملتهما». [الحديث رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة].
وما وجدناه – صلى الله عليه وسلم- يمنع مَنْ معها صغير من أن تأتي المسجد، أو يأمر بفصل الصغير عن أمه، كما يفعلون هذه الأيام، بتلك القسوة البعيدة تمام البعد عن ديننا، بل نسمعه – صلى الله عليه وسلم- يقول: «إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي؛ فأتجوَّز في صلاتي مما أعلم من شدة وَجْد أمه من بكائه» [أخرجه البخاري ومسلم]. ونراه – بأبي هو و أمي- يحمل الأطفال في الصلاة؛ فها هو يحمل أمامةَ بنت العاص –ابنة زينب، رضي الله عنهم- على عاتقه، فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها [رواه البخاري ومسلم]. ويعلِّمنا الرفقَ فيقول: «إن الرفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا يُنزَع من شيءٍ إلا شانه» [رواه مسلم].

فكيف نرجو رحمةً ورضوانًا ونحن نقف على رؤوس الأطفال بالعصـي فنخيفهم ونهددهم في أكثر مكان يجب أن يشعروا فيه بالطمأنينة والأمان؟! وكيف يتجرَّأ أحدٌ على طردهم وأمهاتهم من بيوت الله؟! وهل نضمن أن منظر استبعادهم هذا وكأنهم منبوذون، وإيذاء أمهاتهم بهذه الصورة البغيضة لن يعلق في أذهانهم؛ فيؤثر في سلوكهم تجاه المساجد ومسؤوليها وقت شبابهم، أو يؤثر على محافظتهم على الصلوات واغتنام أوقات الطاعات بعد أن يصيروا مكلَّفين؟!

وقد قال فضيلة الشيخ: حسام الدين عفانة، رئيس دائرة الفقه والتشـريع بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة القدس سابقًا، في فتوى له عن حكم اصطحاب الأطفال للمساجد:
«ويحتجُّ بعض الناس على طرد الأطفال من المساجد بما روي في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم قال: «جنِّبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم»، فهذا الحديث ضعيفٌ عند العلماء ولا يصح الاستدلال به، قال البزار: لا أصل له، وكذلك قال عبد الحق الإشبيلي، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر وابن الجوزي والمنذري والهيثمي وغيرهم. وظنُّ عامة الناس أن هذا الحديث ثابتٌ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جعلهم يَطردون الأطفال من المساجد، ويُنكرون على من يحضـرهم إلى المساجد، وهذا موقفٌ غير صحيح». ثم قال فضيلته بعد أن ساق الأحاديث الصحيحة المؤيِّدة لفتواه:
( وخلاصة الأمر: أنه يحرم طرد الأطفال من المساجد، بل يجب تعويدهم على الحضور إلى المسجد؛ ليتعلَّموا الصلاة وقراءة القرآن وأحكام التجويد وغير ذلك من الأحكام الشرعية) ". موقع طريق الإسلام "

ختامًا، أقول لكل أمٍّ تجاهد نفسها لاغتنام أوقات الطاعة، خاصةً في رمضان: هيئي صغارك للصلاة منذ نعومة أظفارهم، وعوِّديهم على النظام والتزام حدود الأدب في جميع أحوالهم، خاصةً وقت الصلاة. أخبريهم أننا نقف بين يدي الله –تعالى؛ فلا يجوز أن نرفع صوتًا أو أن نأتي بحركات غير حركات الصلاة. اسمحي لهم أن يقفوا بجوارك أثناء الصلاة ويفعلوا مثلما تفعلين، وأخبريهم أن الله ينظر إليهم فيجب أن يؤدُّوا صلاتهم بسكينة ويقفوا بوقار. وإذا اصطحبتِهم إلى المسجد في رمضان فشجِّعيهم على التأدُّب والهدوء، بجلب الهدايا لهم والثناء عليهم لأنهم علموا آداب دخول المسجد والتزموا الهدوء، وحرصوا على عدم التشويش على المصلين.

وأقول للمسؤولين عن بيوت الله: تذكَّروا جيدًا أننا نحن من نصنع الذكريات لأبنائنا، وهذه الذكريات هي التي تشكِّل شخصياتهم في مستقبل حياتهم؛ فخصِّصوا –بارك الله فيكم- أماكن مهيَّأة للنساء وأطفالهن، واجعلوا عليها مشـرفات رفيقات يحملن في أيديهن الحلوى والدُّمى بدلًا من حملهنَّ العصـيَّ الغليظة، وانظروا بعد ذلك كيف يكون صغارنا في بيوت الله، لن تجدوهم إلا أكثر حبًّا للإسلام والمسلمين، وأكثر تمسُّكًا بآداب الجلوس في المسجد، وستجدونهم يسابقون الآباء والأمهات إلى المساجد، ويكونون أشدَّ حرصًا منهم على اغتنام هذه الأوقات المباركة، وسيصبح كلٌّ منهم مسلمًا يَسلَم المسلمون من لسانه ويده؛ لتلك الصورة المشرقة التي طبعناها داخله عن مبادئ الإسلام الأصيلة، من الرحمة والرفق وحفظ الحقوق ومراعاة المشاعر.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة