الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف نجدد أفكارنا؟

كيف نجدد أفكارنا؟

كيف نجدد أفكارنا؟

الفكر هو المدخل الصحيح للتغيير والإصلاح؛ لأن حركة الإنسان تأتي تاليةً لما يقتنع به ويفكر فيه، والصورة المثلى هي أن تكون الجوارح مُنقادةً للعقل، الذي هو أداة الفكر والفهم والوعي، فبعد الوعي يكون السعي، وعلى قدر استقامة الفكر والوعي، تكون صحة الحركة وفاعليتها، ولذا كان أول ما تنزل من القرآن الكريم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، قبل الحديث عن الواجبات والمنهيات، وبوَّب البخاري في صحيحه: (باب العلم قبل القول والعمل).
وأما التجديد فيمكن أن نقول عنه بشيء من العموم إنه نَفْضٌ للغبار عما لحق بالمفاهيم والتصورات، لتستعيد صحتها وسلامتها، وعما لحق بالخطط والبرامج وكلِّ ما يقوم به الإنسان، ليستعيد فاعليته وإنتاجيته، بحيث يكون ما يعتقده المرء وما يقوم به موافقًا للواجب ومحقِّقًا للمطلوب بكفاءة.
ولا شك أن تجديد الفكر هو أحد الأسئلة الكبرى التي يلح عليها واقعنا المتداخل، وتستدعيها مشكلاتنا المتراكمة، ولا مفر من الاشتباك معها والتماسِّ مع إجاباتها.
ولهذا أعتقد أن سؤال “لماذا نجدد أفكارنا؟” لسنا بحاجة للتفصيل في الإجابة عنه؛ لأن ما نعانيه من مشكلات وتراكمات، على المستويات المتعددة، قد وفرَّ علينا عناء الخوض في هذه الإجابة، لإثبات ضرورة التجديد ولزومه، وبالتالي: أصبحنا مباشرة أمام السؤال الذي يعقبه، وهو “كيف نجدد أفكارنا؟”
وأعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال المهم، تكون من خلال ثلاث خطوات أساسية، وهي:

إدراك تغير الواقع:

أي أن ندرك أن واقعنا قد تغير جذريًّا عما عهده أسلافنا، في المجالات كافة؛ تربويًّا وفكريًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، وصرنا أمام مشكلات لم تعرفها الأمم التي قبلنا، وأمام واقع جديد لم تشهد البشرية مثله، ومن ثم فأي قياس لهذا الواقع الجديد على ما سبقه هو قياس يفتقد المعيار الصحيح، ولن يؤدي إلى تصور دقيق.
هذا الواقع الجديد وهذه المشكلات المستحدَثة، لاشك أنهما يستلزمان حلولاً تناسبهما، وتصوراتٍ تتماشى معهما، ومن الخطأ البيِّن أن يحسب البعض أن الزمان توقف عند عهد بعينه من الماضي، أو ينظر إلى أحوال الناس ووقائعهم كأنها لم يصبها مسٌّ من التغيير والتبديل!
أما من يحاول إصلاح الواقع وهو يعتقد أنه لم يتغير ولم يتبدل، فلن يأتي إصلاحه وفق الواجب والمطلوب!

الانتباه إلى تفاوت النصوص وتَناهِي الأحكام:

أي أن ننتبه بوعي إلى تفاوت درجات النصوص فيما بينها، وإلى تناهي ما يترتب عليها من أحكام: أي محدودية هذه الأحكام.
فالأحكام الشرعية لم تَجئ كلها على درجة واحدة من: قطعية الثبوت والدلالة.. بل منها ما هو قطعي الثبوت والدلالة، وما هو قطعي الثبوت ظني الدلالة، وما هو ظني الثبوت قطعي الدلالة، وما هو ظني الثبوت والدلالة معًا.. بل لم تستوعب الأحكام المستخرَجة من هذه النصوص- على درجاتها المتنوعة هذه- كلَّ الوقائع المستجدة.. لأنه النصوص متناهية، أي محدودة، والوقائع غير متناهية أي متجددة.. ومن هنا، جاءت مشروعية الاجتهاد وضرورته، وكان لسؤال تجديد الفكر أهميته وإلحاحه..
يقول الإمام السيوطي: “نعلم قطعًا ويقينا أن الحوادِث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نَص ولا يُتصَوَّر ذلك أيضًا. والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى؛ عُلِم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار؛ حتى يكون بصدد كلِّ حادثةٍ اجتهادٌ”.
وبالتالي، فعلينا أن ندرك ما هو ثابت مما هو متغير.. وما يجوز بل يجب استصحابه مع الواقع الجديد، وما لا يجوز.. وما يقع فيه الاجتهاد وما لا يقع.. وإلا جمدنا حيث يجب أن نتحرك، أو تحركنا حيث يجب أن نقف..!
إن ما نراه- للأسف- من خلط بين الثوابت والمتغيرات، أو بين مواطن الاتباع ومواقع الاجتهاد؛ هو ما يُحدث الانحراف يمينًا أو يسارًا، إفراطًا أو تفريطًا، جمودًا أو انفلاتًا، غربةً عن الزمان (نحو قرون مضت) أو غربةً عن المكان (نحو استيراد نماذج من خارج بيئتنا).. وكلا الأمرين غير مقبول.
المقبول هو أن نتصالح مع واقعنا بمثل ما نحترم ماضينا، وأن نجدد أفكارنا فيما يقبل التجديد بمثل ما نحافظ فيما تجب المحافظة عليه.. سواء بسواء..

معرفة الواقع وترتيب أولوياته:
أي أن نعرف واقعنا بدقة، ومشكلاتنا بعمق، ومستجداتنا بوعي، وأن نعلم أن الغربة عن الواقع أو تحاشي التفاعل معه- بدعوى ما يمتلئ به من سوءات- لن تُنتج فَهْمًا صحيحًا له، ولا تصويبًا دقيقًا لمشكلاته، فالحكم على الشيء فرعٌ عن تصوُّرِه، وأي حكم صحيح يمكن أن يَنتج عن تصور غير دقيق؟!

إن البعض- ويا للعجب- مازال يحسب الحياة جاريةً على بساطتها في الزمان الأول، ويمكن إصلاحها بكلمة هنا أو خطبة هناك، أو حتى بضربة عصا كما كانت درَّة عمر تفعل فعلها المبارك!
أمام هذا التصور الساذج عن الحياة، تأتي وسائل التغيير والإصلاح أكثر إغراقًا في السذاجة، وأبعدَ ما تكون عن الفاعلية؟!

ولنسائل أنفسنا: هل نحن نتصور المدى الذي بلغته حركة المرأة في مجتمعاتنا، والذي يصعب- إن لم يكن مستحيلاً- التراجع عنه إلى زمن لم تكن تخرج فيه المرأة من بيتها إلا قليلاً، بل وهل عدم خروجهًا من البيت مطلوب أصلاً ؟!
هل نحن نمتلك معرفة دقيقة عن حركة المال وكيف تدور مع البنوك؟! وكيف يمكن التخلص من ربوياتها؟!
هل استوعبنا ضرورات إشراك الشعوب في تقرير مصائرها، وتحديد ممثليها، ومراقبة من ينوبون عنها، أم ما زال بعضنا يستدعي تجاربَ ونماذجَ خلت، كانت تعبيرًا عن بيئتها لا عن وحي السماء وهدي النبوة؟! وصارت كلمات مثل: (الديمقراطية مستوردة، والغرب لا يأتي منه خير) أقرب إلى اللسان منها إلى العقل؟!
إن معرفة الواقع لا تقل أهميةً وضرورةً عن معرفة النصوص، وإن تنزيل النصوص على غير واقعها، أو جرَّ الواقع إلى غير نصوصه؛ لن يحل إشكالية ولن يخفف أزمة، بل سيزيد الفجوة بينهما، وربما يؤثر سلبًا على النصوص ذاتها عند بعض المتلقين !

يقول الأستاذ عمر عبيد حسنة: “إن فقه المجتمع والواقع يوازي فقه النص؛ وبدون فقه المحل ومعرفة الاستطاعات بشكل علمي وموضوعي فسوف تستمر المجازفات، وهدر الطاقات، والعبث بالأحكام الشرعية، والمساهمة السلبية بالإساءة إليها، ولو عن حسن نية. فلا يمكن أن يسمَّى فقيهًا حامل النصوص؛ لأن فقه أبعاد التكليف قسيم فقه النص ومكمِّل له، فلا فقه لنص بلا فقه لمحله. فالاجتهاد كل الاجتهاد اليوم لا بد أن ينصرف، فيما نرى، إلى محل تنزيل النص ومورده؛ ذلك أن النصوص أصبحت محفوظة وميسور الوصول إليها”.

وبجانب هذه المعرفة الدقيقة بالواقع، لابد أن نرتب أولوياته ومشكلاته الأكثر إلحاحًا؛ حتى لا ننشغل بالمهم عن الأهم، فضلاً عن الانشغال بعديم الجدوى عن المهم والأهم!
وكم حدثت من مشكلات، وضاعت من جهود؛ نتيجة خوض معارك وهمية أو معارك كان يمكن تجنبها والإعراض عنها؛ لعدم فائدتها، أو لقلة أهميتها بالنظر لقضايا أخرى!
ولذا، نستطيع أن نقول في الختام: إذا أدركنا أننا أمام واقع تغيَّر جذريًّا، ويتغير باستمرار، وإذا عرفنا أن النصوص الشرعية تتفاوت فيما بينها، وأن أحكامها محدودة، وإذا اشتبكنا مع واقعنا كما ينبغي، بناءً على المعرفة الدقيقة بمشكلاته، وبترتيب قضاياه من حيث الأولوية، إذا أدركنا ذلك كلَّه، فسينفتح الباب أمامنا عن عشرات القضايا التي تنتظر فكرًا جديدًا وتعاملاً واعيًا، وسنكون على بصيرة بكيفية تجديد فكرنا فيها، على استقامة وبصيرة، وسنتجنب- حينئذٍ- الدورانَ في فلكِ مُعَادٍ من القولِ مكرور!!

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة