الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وفي نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كلام هؤلاء الثلاثة من بين سائر من تخلف عنه دليل على صدقهم وكذب الباقين ، فأراد هجر الصادقين وتأديبهم على هذا الذنب ، وأما المنافقون فجرمهم أعظم من أن يقابل بالهجر ، فدواء هذا المرض لا يعمل في مرض النفاق ، ولا فائدة فيه ، وهكذا يفعل الرب سبحانه بعباده في عقوبات جرائمهم ، فيؤدب عبده المؤمن الذي يحبه وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة ، فلا يزال مستيقظا حذرا ، وأما من سقط من عينه وهان عليه ، فإنه يخلي بينه وبين معاصيه ، وكلما أحدث ذنبا أحدث له نعمة ، والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه ، ولا يعلم أن ذلك عين الإهانة ، وأنه يريد به العذاب الشديد والعقوبة التي لا عاقبة معها ، كما في الحديث المشهور : ( إذا أراد الله بعبد خيرا عجل له عقوبته في الدنيا ، وإذا أراد بعبد شرا أمسك عنه عقوبته في الدنيا ، فيرد يوم القيامة بذنوبه ) .

وفيه دليل أيضا على هجران الإمام والعالم والمطاع لمن فعل ما يستوجب العتب ، ويكون هجرانه دواء له بحيث لا يضعف عن حصول الشفاء به ، ولا يزيد في الكمية والكيفية عليه فيهلكه ، إذ المراد تأديبه لا إتلافه .

وقوله : ( حتى تنكرت لي الأرض ، فما هي بالتي أعرف ) ، هذا التنكر يجده الخائف والحزين والمهموم في الأرض ، وفي الشجر والنبات ، حتى يجده فيمن لا يعلم حاله من الناس ، ويجده أيضا المذنب العاصي بحسب جرمه حتى في خلق زوجته وولده ، وخادمه ودابته ، ويجده في نفسه أيضا ، فتتنكر له نفسه حتى ما [ ص: 507 ] كأنه هو ، ولا كأن أهله وأصحابه ، ومن يشفق عليه بالذين يعرفهم ، وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب ، وعلى حسب حياة القلب ، يكون إدراك هذا التنكر والوحشة .


وما لجرح بميت إيلام



ومن المعلوم أن هذا التنكر والوحشة كانا لأهل النفاق أعظم ، ولكن لموت قلوبهم لم يكونوا يشعرون به ، وهكذا القلب إذا استحكم مرضه ، واشتد ألمه بالذنوب والإجرام ، لم يجد هذه الوحشة والتنكر ، ولم يحس بها ، وهذه علامة الشقاوة ، وأنه قد أيس من عافية هذا المرض ، وأعيا الأطباء شفاؤه ، والخوف والهم مع الريبة ، والأمن والسرور مع البراءة من الذنب .


فما في الأرض أشجع من بريء     ولا في الأرض أخوف من مريب



وهذا القدر قد ينتفع به المؤمن البصير إذا ابتلي به ثم راجع ، فإنه ينتفع به نفعا عظيما من وجوه عديدة تفوت الحصر ، ولو لم يكن منها إلا استثماره من ذلك أعلام النبوة ، وذوقه نفس ما أخبر به الرسول فيصير تصديقه ضروريا عنده ، ويصير ما ناله من الشر بمعاصيه ، ومن الخير بطاعاته من أدلة صدق النبوة الذوقية التي لا تتطرق إليها الاحتمالات ، وهذا كمن أخبرك أن في هذه الطريق من المعاطب والمخاوف كيت وكيت على التفصيل ، فخالفته وسلكتها ، فرأيت عين ما أخبرك به ، فإنك تشهد صدقه في نفس خلافك له ، وأما إذا سلكت طريق الأمن وحدها ، ولم تجد من تلك المخاوف شيئا ، فإنه وإن شهد صدق المخبر بما ناله من الخير والظفر مفصلا ، فإن علمه بتلك يكون مجملا .

التالي السابق


الخدمات العلمية