الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 360 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ومن لا جمعة عليه مخير بين الظهر والجمعة ، فإن صلى الجمعة أجزأه عن الظهر ; لأن الجمعة إنما سقطت عنه لعذر ، فإذا حمل على نفسه وفعل أجزأه ، كالمريض إذا حمل على نفسه فصلى من قيام ، وإن أراد أن يصلي الظهر جاز ; لأنه فرضه غير أن المستحب أن لا يصلي حتى يعلم أن الجمعة قد فاتت ; لأنه ربما زال العذر فيصلي الجمعة ، فإن صلى في أول الوقت ثم زال عذره والوقت باق لم تجب عليه الجمعة .

                                      وقال ابن الحداد إذا صلى الصبي الظهر ثم بلغ والوقت باق لزمه الجمعة ، وإن صلى غيره من المعذورين لم تلزمه الجمعة ; لأن ما صلى الصبي ليس بفرض وما صلى غيره فرض ، والمذهب الأول ; لأن الشافعي نص على أن الصبي إذا صلى في غير يوم الجمعة الظهر ، ثم بلغ والوقت باق لم تجب عليه إعادة الظهر ، فكذلك الجمعة فإن صلى المعذور الظهر ثم صلى الجمعة سقط الفرض بالظهر ، وكانت الجمعة نافلة .

                                      وحكى أبو إسحاق المروزي أنه قال في القديم : يحتسب الله له بأيتهما شاء ، والصحيح هو الأول ، وإن أخر المعذور الصلاة حتى فاتت الجمعة صلى الظهر في الجماعة ; قال الشافعي : وأحب إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين ، قال أصحابنا : فإن كان عذرهم ظاهرا لم يكره إظهار الجماعة ; لأنهم لا يتهمون مع ظهور العذر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قال أصحابنا : المعذور في ترك الجمعة ضربان ( أحدهما ) : من يتوقع زوال عذره ووجوب الجمعة عليه كالعبد والمريض والمسافر ونحوهم ، فلهم أن يصلوا الظهر قبل الجمعة ، لكن الأفضل تأخيرها إلى اليأس من الجمعة لاحتمال تمكنه منها ، ويحصل اليأس برفع الإمام رأسه من ركوع الثانية ، هذا هو الصحيح المشهور ، وحكى إمام الحرمين وغيره وجها : أنه يراعى تصور الإدراك في حق كل واحد ، فإذا كان منزله بعيدا فانتهى الوقت الذي بحيث لو ذهب لم يدرك الجمعة حصل الفوات في حقه .

                                      ( الضرب الثاني ) : من لا يرجو زوال عذره كالمرأة والزمن ففيه وجهان ( أصحهما ) وبه قطع الماوردي والدارمي والخراسانيون ن - وهو ظاهر تعليل المصنف : أنه يستحب لهم تعجيل الظهر في أول الوقت محافظة على فضيلة أول الوقت ( والثاني ) : يستحب تأخيرها حتى تفوت الجمعة كالضرب الأول ; لأنهم قد ينشطون للجمعة ، ولأن الجمعة صلاة الكاملين فاستحب كونها المتقدمة ، ولو قيل بالتفصيل ، لكان حسنا ، وهو أنه إن كان هذا [ ص: 361 ] الشخص جازما بأنه لا يحضر الجمعة - وإن تمكن استحب تقديم الظهر وأن لو تمكن أو نشط حضرها - استحب التأخير والله أعلم .

                                      قال الشافعي والأصحاب : ويستحب للمعذورين الجماعة في ظهرهم ، وحكى الغزالي والرافعي أنه لا يستحب لهم الجماعة ; لأن الجماعة المشروعة هذا الوقت الجمعة ، وبهذا قال الحسن بن صالح وأبو حنيفة والثوري ، والمذهب الأول كما لو كانوا في غير البلد ، فإن الجماعة تستحب في ظهرهم بالإجماع فعلى هذا قال الشافعي : أستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا في الدين وينسبوا إلى ترك الجمعة تهاونا . قال جمهور الأصحاب : هذا إذا كان عذرهم خفيا .

                                      فإن كان ظاهرا لم يستحب الإخفاء ; لأنهم لا يتهمون حينئذ ، ومنهم من قال : يستحب الإخفاء مطلقا عملا بظاهر نصه ; لأنه قد لا يفطن للعذر الظاهر ، وقد يتهم صاحبه مع العلم بعذره لاقتصاره على الظهر مع أنه مندوب إلى الجمعة ، وممن حكى هذا الوجه الرافعي وإذا كان العذر خفيا فعبارة الشافعي : أحب إخفاء الجماعة كما حكاه المصنف ، وكذا اقتصر عليها كثيرون ، وقال المتولي : يكره إخفاء الجماعة ، وفي كلام المصنف إشارة إليه بقوله : إن كان عذرهم ظاهرا لم يكره إظهار الجماعة .

                                      قال أصحابنا : وإذا صلى المعذور الظهر ثم زال عذره وتمكن من الجمعة أجزأته ظهره ، ولا تلزمه الجمعة بالاتفاق إلا الصبي على قول ابن الحداد وهو ضعيف باتفاق الأصحاب كما ضعفه المصنف ، ولا الخنثى المشكل إذا زال إشكاله فيلزمه بلا خلاف ; لأنا تبينا أنها كانت واجبة عليه ، وهو الآن متمكن ، وهذا يرد على المصنف ، ويجاب عنه بأنه أراد أصحاب الأعذار الذين ذكرهم هو ، ولم يذكر الخنثى ، أما إذا زال العذر في أثناء الظهر ففيه طريقان : قال القفال وإمام الحرمين : هو كرؤية الماء في أثناء صلاة المسافر بالتيمم ، وهذا يقتضي خلافا في بطلان ظهره كالخلاف هناك ، ويقتضي خلافا في استحباب قطعها والبقاء فيها .

                                      وذكر الشيخ أبو محمد في بطلان هذه الظهر وجهين ، والمذهب : أنها لا تبطل لاتصالها بالمقصود ، وقياسا على المكفر بالصوم إذا وجد الرقبة في أثنائه أو وجد المتمتع الهدي في أثناء [ ص: 362 ] الصوم ، أو تمكن من تزوج أمة من نكاح حرة ونظائره ، وهذا الخلاف تفريع على إبطال ظهر غير المعذور إذا قدمها على الجمعة ، أما إذا لم تبطل تلك فهذه أولى .

                                      قال أصحابنا : ويستحب للمعذور حضور الجمعة وإن صلى الظهر ; لأنها أكمل ، فلو صلى الظهر ثم صلى الجمعة فقولان حكاهما المصنف والأصحاب ( الصحيح ) المشهور الجديد : أن فرضه الظهر ، وتقع الجمعة نافلة له ، كما تقع للصبي نافلة ( والثاني ) : وهو القديم يحتسب الله - تعالى - بأيتهما شاء ، وتظهر فائدة الخلاف في أنه يجمع بينهما بتيمم واحد أم لا ؟ وقد سبق نحوه في باب التيمم ، ودليل هذه المسائل يفهم مما ذكره المصنف مع ما أشرت إليه .

                                      ( فرع ) ذكرنا أن المعذورين كالعبد والمرأة والمسافر وغيرهم فرضهم الظهر ، فإن صلوها صحت ، وإن تركوا الظهر وصلوا الجمعة أجزأتهم بالإجماع ، نقل الإجماع فيه ابن المنذر وإمام الحرمين وغيرهما ( فإن قيل ) : إذا كان فرضهم الظهر أربعا فكيف سقط الفرض عنهم بركعتي الجمعة ( فجوابه ) : أن الجمعة وإن كانت ركعتين فهي أكمل من الظهر بلا شك ، ولهذا وجبت على أهل الكمال .

                                      وإنما سقطت عن المعذور تخفيفا فإذا تكلفها فقد أحسن فأجزأه كما ذكره المصنف في المريض إذا تكلف القيام ، والمتوضئ إذا ترك مسح الخف فغسل رجليه وشبهه ، وهذا كله بعد ثبوت الإجماع .

                                      ( فرع ) إذا أرادت المرأة حضور الجمعة فهو كحضورها لسائر الصلوات ، وقد ذكره المصنف في أول باب صلاة الجماعة ، وشرحناه هناك ، وحاصله أنها إن كانت شابة أو عجوزا تشتهى كره حضورها وإلا فلا ، هكذا صرح به هنا المتولي وغيره .




                                      الخدمات العلمية