الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      هذا نهارهم مع الناس فأم ليلهم فهو التقوى ومراقبة الله، والشعور بجلاله، والخوف من عذابه.

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما. والذين يقولون : ربنا اصرف عنا عذاب جهنم. إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما ..

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير يبرز من الصلاة السجود والقيام لتصوير حركة عباد الرحمن، في جنح الليل والناس نيام، فهؤلاء قوم يبيتون لربهم سجدا وقياما، يتوجهون لربهم وحده، ويقومون له وحده، ويسجدون له وحده، هؤلاء قوم مشغولون عن النوم المريح اللذيذ، بما هو أروح منه وأمتع، مشغولون بالتوجه إلى ربهم، وتعليق أرواحهم وجوارحهم به، ينام الناس وهم قائمون ساجدون; ويخلد الناس إلى الأرض وهم يتطلعون إلى عرش الرحمن، ذي الجلال والإكرام.

                                                                                                                                                                                                                                      وهم في قيامهم وسجودهم وتطلعهم وتعلقهم تمتلئ قلوبهم بالتقوى، والخوف من عذاب جهنم يقولون :

                                                                                                                                                                                                                                      ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما. إنها ساءت مستقرا ومقاما .. وما رأوا جهنم، ولكنهم آمنوا بوجودها، وتمثلوا صورتها مما جاءهم في القرآن الكريم وعلى لسان رسول الله الكريم، فهذا الخوف النبيل إنما هو ثمرة الإيمان العميق، وثمرة التصديق.

                                                                                                                                                                                                                                      وهم يتوجهون إلى ربهم في ضراعة وخشوع ليصرف عنهم عذاب جهنم، لا يطمئنهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما; فهم لما يخالج قلوبهم من التقوى يستقلون عملهم وعبادتهم، ولا يرون فيها ضمانا ولا أمانا من النار، إن لم يتداركهم فضل الله وسماحته وعفوه ورحمته، فيصرف عنهم عذاب جهنم.

                                                                                                                                                                                                                                      والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد، متصدية لكل بشر، فاتحة فاها، تهم أن تلتهم، باسطة أيديها تهم أن تقبض على القريب والبعيد! وعباد الرحمن الذين يبيتون لربهم سجدا وقياما يخافونها ويخشونها، ويتضرعون إلى ربهم أن يصرف عنهم عذابها، وأن ينجيهم من تعرضها وتصديها!

                                                                                                                                                                                                                                      ويرتعش تعبيرهم وهم يتضرعون إلى ربهم خوفا وفزعا: إن عذابها كان غراما : أي ملازما لا يتحول عن صاحبه ولا يفارقه ولا يقيله; فهذا ما يجعله مروعا مخيفا شنيعا.. إنها ساءت مستقرا ومقاما وهل أسوأ من جهنم مكانا يستقر فيه الإنسان ويقيم، وأين الاستقرار وهي النار؟ وأين المقام وهو التقلب على اللظى ليل نهار!

                                                                                                                                                                                                                                      وهم في حياتهم نموذج القصد والاعتدال والتوازن:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه سمة الإسلام التي يحققها في حياة الأفراد والجماعات; ويتجه إليها في التربية والتشريع، يقيم بناءه كله على التوازن والاعتدال.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2579 ] والمسلم - مع اعتراف الإسلام بالملكية الفردية المقيدة - ليس حرا في إنفاق أمواله الخاصة كما يشاء، كما هو الحال في النظام الرأسمالي، وعند الأمم التي لا يحكم التشريع الإلهي حياتها في كل ميدان، إنما هو مقيد بالتوسط في الأمرين الإسراف والتقتير، فالإسراف مفسدة للنفس والمال والمجتمع; والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية، والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي ولمجال الاقتصادي، وحبس الأموال يحدث أزمات ومثله إطلاقها بغير حساب، ذلك فوق فساد القلوب والأخلاق.

                                                                                                                                                                                                                                      والإسلام وهو ينظم هذا الجانب من الحياة يبدأ به من نفس الفرد، فيجعل الاعتدال سمة من سمات الإيمان:

                                                                                                                                                                                                                                      وكان بين ذلك قواما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وسمة عباد الرحمن بعد ذلك أنهم لا يشركون بالله، ويتحرجون من قتل النفس، ومن الزنا، تلك الكبائر المنكرات التي تستحق أليم العذاب:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين لا يدعون مع الله إلها آخر، ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا يزنون. ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة، ويخلد فيه مهانا. إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا، فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا .

                                                                                                                                                                                                                                      وتوحيد الله أساس هذه العقيدة، ومفرق الطريق بين الوضوح والاستقامة والبساطة في الاعتقاد; والغموض والالتواء والتعقيد، الذي لا يقوم على أساسه نظام صالح للحياة.

                                                                                                                                                                                                                                      والتحرج من قتل النفس - إلا بالحق - مفرق الطريق بين الحياة الاجتماعية الآمنة المطمئنة التي تحترم فيها الحياة الإنسانية ويقام لها وزن; وحياة الغابات والكهوف التي لا يأمن فيها على نفسه أحد ولا يطمئن إلى عمل أو بناء.

                                                                                                                                                                                                                                      والتحرج من الزنا هو مفرق الطريق بين الحياة النظيفة التي يشعر فيها الإنسان بارتفاعه عن الحس الحيواني الغليظ، ويحس بأن لالتقائه بالجنس الآخر هدفا أسمى من إرواء سعار اللحم والدم، والحياة الهابطة الغليظة التي لا هم للذكران والإناث فيها إلا إرضاء ذلك السعار.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أجل أن هذه الصفات الثلاثة مفرق الطريق بين الحياة اللائقة بالإنسان الكريم على الله; والحياة الرخيصة الغليظة الهابطة إلى درك الحيوان، من أجل ذلك ذكرها الله في سمات عباد الرحمن، أرفع الخلق عند الله وأكرمهم على الله، وعقب عليها بالتهديد الشديد: ومن يفعل ذلك يلق أثاما أي: عذابا، وفسر هذا العذاب بما بعده يضاعف له العذاب يوم القيامة. ويخلد فيه مهانا فليس هو العذاب المضاعف وحده، وإنما هي المهانة كذلك، وهي أشد وأنكى.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم يفتح باب التوبة لمن أراد أن ينجو من هذا المصير المسيء بالتوبة والإيمان الصحيح والعمل الصالح: إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا ويعد التائبين المؤمنين العاملين أن يبدل ما عملوه من سيئات قبل التوبة حسنات بعدها تضاف إلى حسناتهم الجديدة: فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات . وهو فيض من عطاء الله لا مقابل له من عمل العبد إلا أنه اهتدى ورجع عن الضلال، وثاب إلى حمى الله، ولاذ به بعد الشرود والمتاهة. وكان الله غفورا رحيما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وباب التوبة دائما مفتوح، يدخل منه كل من استيقظ ضميره، وأراد العودة والمآب، لا يصد عنه [ ص: 2580 ] قاصد، ولا يغلق في وجه لاجئ، أيا كان، وأيا ما ارتكب من الآثام.

                                                                                                                                                                                                                                      روى الطبراني من حديث أبي المغيرة عن صفوان بن عمر عن عبد الرحمن بن جبير عن أبي فروة: أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أرأيت رجلا عمل الذنوب كلها ولم يترك حاجة ولا داجة، فهل له من توبة؟ فقال: أسلمت؟ فقال: نعم. قال: " فافعل الخيرات واترك السيئات، فيجعلها الله لك خيرات كلها" قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: نعم. فما زال يكبر حتى توارى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويضع قاعدة التوبة وشرطها: ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا .. فالتوبة تبدأ بالندم والإقلاع عن المعصية، وتنتهي بالعمل الصالح الذي يثبت أن التوبة صحيحة وأنها جدية، وهو في الوقت ذاته ينشئ التعويض الإيجابي في النفس للإقلاع عن المعصية، فالمعصية عمل وحركة، يجب ملء فراغه بعمل مضاد وحركة، وإلا حنت النفس إلى الخطيئة بتأثير الفراغ الذي تحسه بعد الإقلاع، وهذه لمحة في منهج التربية القرآني عجيبة، تقوم على خبرة بالنفس الإنسانية عميقة، ومن أخبر من الخالق بما خلق؟ سبحانه وتعالى!

                                                                                                                                                                                                                                      وبعد هذا البيان المعترض يعود إلى سمات عباد الرحمن :

                                                                                                                                                                                                                                      والذين لا يشهدون الزور، وإذا مروا باللغو مروا كراما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وعدم شهادة الزور قد تكون على ظاهر اللفظ ومعناه القريب، أنهم لا يؤدون شهادة زور، لما في ذلك من تضييع الحقوق، والإعانة على الظلم، وقد يكون معناها الفرار من مجرد الوجود في مجلس أو مجال يقع فيه الزور بكل صنوفه وألوانه، ترفعا منهم عن شهود مثل هذه المجالس والمجالات. وهو أبلغ وأوقع، وهم كذلك يصونون أنفسهم واهتماماتهم عن اللغو والهذر : وإذا مروا باللغو مروا كراما لا يشغلون أنفسهم به، ولا يلوثونها بسماعه; إنما يكرمونها عن ملابسته ورؤيته بله المشاركة فيه! فللمؤمن ما يشغله عن اللغو والهذر، وليس لديه من الفراغ والبطالة ما يدفعه إلى الشغل باللغو الفارغ، وهو من عقيدته ومن دعوته ومن تكاليفها في نفسه وفي الحياة كلها في شغل شاغل.

                                                                                                                                                                                                                                      ومن سماتهم أنهم سريعو التذكر إذا ذكروا، قريبو الاعتبار إذا وعظوا، مفتوحوا القلوب لآيات الله، يتلقونها بالفهم والاعتبار :

                                                                                                                                                                                                                                      والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين ينكبون على آلهتهم وعقائدهم وأباطيلهم كالصم والعميان; لا يسمعون ولا يبصرون، ولا يتطلعون إلى هدى أو نور، وحركة الانكباب على الوجوه بلا سمع ولا بصر ولا تدبر حركة تصور الغفلة والانطماس والتعصب الأعمى، فأما عباد الرحمن، فهم يدركون إدراكا واعيا بصيرا ما في عقيدتهم من حق، وما في آيات الله من صدق، فيؤمنوا إيمانا واعيا بصيرا، لا تعصبا أعمى ولا انكبابا على الوجوه! فإذا تحمسوا لعقيدتهم فإنما هي حماسة العارف المدرك البصير.

                                                                                                                                                                                                                                      وأخيرا فإن عباد الرحمن لا يكفيهم أنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما; وأنهم يتسمون بتلك السمات العظيمة كلها، بل يرجون أن تعقبهم ذرية تسير على نهجهم، وأن تكون لهم أزواج من نوعهم; فتقر بهم عيونهم، [ ص: 2581 ] وتطمئن بهم قلوبهم، ويتضاعف بهم عدد عباد الرحمن ويرجون أن يجعل الله منهم قدوة طيبة للذين يتقون الله ويخافونه:

                                                                                                                                                                                                                                      والذين يقولون : ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الشعور الفطري الإيماني العميق شعور الرغبة في مضاعفة السالكين في الدرب إلى الله، وفي أولهم الذرية والأزواج، فهم أقرب الناس تبعة وهم أول أمانة يسأل عنها الرجال، والرغبة كذلك في أن يحس المؤمن أنه قدوة للخير، يأتم به الراغبون في الله، وليس في هذا من أثرة ولا استعلاء فالركب كله في الطريق إلى الله.

                                                                                                                                                                                                                                      فأما جزاء عباد الرحمن فيختم به هذا البيان:

                                                                                                                                                                                                                                      أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويلقون فيها تحية وسلاما، خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما ..

                                                                                                                                                                                                                                      والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة، أو المكان الخاص في الجنة، كما أن الغرفة أكرم من البهو فيما اعتاد الناس في البيوت في هذه الأرض، عندما يستقبلون الأضياف، وأولئك الكرام الذين سبقت صفاتهم وسماتهم، يستقبلون في الغرفة بالتحية والسلام، جزاء ما صبروا على تلك اصفات والسمات، وهو تعبير ذو دلالة؛ فهذه العزائم تحتاج إلى الصبر على شهوات النفس، ومغريات الحياة، ودوافع السقوط، والاستقامة جهد لا يقدر عليه إلا بالصبر، الصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا الفرقان.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي مقابل جهنم التي يتضرعون إلى ربهم أن يصرفها عنهم لأنها ساءت مستقرا ومقاما، يجزيهم الله الجنة خالدين فيها. حسنت مستقرا ومقاما فلا مخرج لهم إلا أن يشاء الله، وهم فيها على خير حال من الاستقرار والمقام.

                                                                                                                                                                                                                                      والآن وقد صور عباد الرحمن، تلك الخلاصة الصافية للبشرية، يختم السورة بهوان البشرية على الله لولا هؤلاء الذين يتطلعون إلى السماء، فأما المكذبون فالعذاب حتم عليهم لزاما.

                                                                                                                                                                                                                                      قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ..

                                                                                                                                                                                                                                      وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها; ومساقها للتسرية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتعزيته عما يلاقي من عناد قومه وجحودهم، وتطاولهم عليه، وهم يعرفون مقامه; ولكنهم في سبيل الإبقاء على باطلهم يعاندون ويصرون؛ فما قومه؟ وما هذه البشرية كلها، لولا القلة المؤمنة التي تدعو الله،وتتضرع إليه، كما يدعو عباد الرحمن ويتضرعون؟

                                                                                                                                                                                                                                      من هم والأرض التي تضم البشر جميعا إن هي إلا ذرة صغيرة في فضاء الكون الهائل، والبشرية كلها إن هي إلا نوع من أنواع الأحياء الكثيرة على وجه هذه الأرض، والأمة واحدة من أمم هذه الأرض، والجيل الواحد من أمة إن هو إلا صفحة من كتاب ضخم لا يعلم عدد صفحاته إلا الله؟

                                                                                                                                                                                                                                      وإن الإنسان مع ذلك لينتفخ وينتفخ ويحسب نفسه شيئا; ويتطاول ويتطاول حتى ليتطاول على خالقه سبحانه! وهو هين هين، ضعيف ضعيف، قاصر قاصر إلا أن يتصل بالله فيستمد منه القوة والرشاد، وعندئذ فقط يكون شيئا في ميزان الله; وقد يرجح ملائكة الرحمن في هذا الميزان؛ فضلا من الله الذي كرم هذا [ ص: 2582 ] الإنسان وأسجد له الملائكة، ليعرفه ويتصل به ويتعبد له، فيحفظ بذلك خصائصه التي سجدت له معها الملائكة; وإلا فهو لقي ضائع، لو وضع نوعه كله في الميزان ما رجحت به كفة الميزان!

                                                                                                                                                                                                                                      قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم .. وفي التعبير سند للرسول - صلى الله عليه وسلم - وإعزاز قل: ما يعبأ بكم ربي . فأنا في جواره وحماه، هو ربي وأنا عبده، فما أنتم بغير الإيمان به، والانضمام إلى عباده؟ إنكم حصب جهنم فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية