الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ..

                                                                                                                                                                                                                                      إنهم يقومون لصلاة الليل. صلاة العشاء الآخرة. الوتر. ويتهجدون بالصلاة، ودعاء الله. ولكن التعبير القرآني يعبر عن هذا القيام بطريقة أخرى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع

                                                                                                                                                                                                                                      .. فيرسم صورة المضاجع في الليل تدعو الجنوب إلى الرقاد والراحة والتذاذ المنام. ولكن هذه الجنوب لا تستجيب. وإن كانت تبذل جهدا في مقاومة دعوة المضاجع المشتهاة. لأن لها شغلا عن المضاجع اللينة والرقاد اللذيذ. شغلا بربها. شغلا بالوقوف في حضرته. وبالتوجه إليه في خشية وفي طمع يتنازعها الخوف والرجاء. الخوف من عذاب الله [ ص: 2813 ] والرجاء في رحمته. والخوف من غضبه والطمع في رضاه. والخوف من معصيته والطمع في توفيقه. والتعبير يصور هذه المشاعر المرتجفة في الضمير بلمسة واحدة، حتى لكأنها مجسمة ملموسة: يدعون ربهم خوفا وطمعا .. وهم إلى جانب هذه الحساسية المرهفة، والصلاة الخاشعة، والدعاء الحار يؤدون واجبهم للجماعة المسلمة طاعة لله وزكاة.. ومما رزقناهم ينفقون ..

                                                                                                                                                                                                                                      هذه الصورة المشرفة الوضيئة الحساسة الشفيقة ترافقها صورة للجزاء الرفيع الخاص الفريد. الجزاء الذي تتجلى فيه ظلال الرعاية الخاصة، والإعزاز الذاتي، والإكرام الإلهي والحفاوة الربانية بهذه النفوس:

                                                                                                                                                                                                                                      فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      تعبير عجيب يشي بحفاوة الله - سبحانه - بالقوم; وتوليه بذاته العلية إعداد المذخور لهم عنده من الحفاوة والكرامة مما تقر به العيون. هذا المذخور الذي لا يطلع عليه أحد سواه. والذي يظل عنده خاصة مستورا حتى يكشف لأصحابه عنه يوم لقائه! عند لقياه! وإنها لصورة وضيئة لهذا اللقاء الحبيب الكريم في حضرة الله.

                                                                                                                                                                                                                                      يا لله! كم ذا يفيض الله على عباده من كرمه! وكم ذا يغمرهم سبحانه بفضله! ومن هم - كائنا ما كان عملهم وعبادتهم وطاعتهم وتطلعهم - حتى يتولى الله جل جلاله إعداد ما يدخره لهم من جزاء، في عناية ورعاية وود واحتفال؟ لولا أنه فضل الله الكريم المنان؟!

                                                                                                                                                                                                                                      وأمام مشهد المجرمين البائس الذليل; ومشهد المؤمنين الناعم الكريم، يعقب بتلخيص مبدإ الجزاء العادل، الذي يفرق بين المسيئين والمحسنين في الدنيا أو الآخرة; والذي يعلق الجزاء بالعمل، على أساس العدل الدقيق:

                                                                                                                                                                                                                                      أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟ لا يستوون. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى نزلا بما كانوا يعملون. وأما الذين فسقوا فمأواهم النار. كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون. ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون. ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها؟ إنا من المجرمين منتقمون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وما يستوي المؤمنون والفاسقون في طبيعة ولا شعور ولا سلوك، حتى يستووا في الجزاء في الدنيا وفي الآخرة سواء. والمؤمنون مستقيمو الفطرة متجهون إلى الله، عاملون على منهاجه القويم. والفاسقون منحرفون شاردون مفسدون في الأرض لا يستقيمون على الطريق الواصل المتفق مع نهج الله للحياة، وقانونه الأصيل. فلا عجب إذن أن يختلف طريق المؤمنين والفاسقين في الآخرة، وأن يلقى كل منهما الجزاء الذي يناسب رصيده وما قدمت يداه.

                                                                                                                                                                                                                                      أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى التي تؤويهم وتضمهم نزلا ينزلون فيه ويثوون، جزاء بما كانوا يعملون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الذين فسقوا فمأواهم النار .. يصيرون إليها ويأوون. ويا سوءها من مأوى خير منه التشريد! " كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها " وهو مشهد فيه حركة المحاولة للفرار والدفع للنار. وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون . فهو التقريع زيادة على الدفع والتعذيب.

                                                                                                                                                                                                                                      ذلك مصير الفاسقين في الآخرة. وليسوا مع هذا متروكين إلى ذلك الموعد. فالله يتوعدهم بالعذاب في هذه الدنيا قبل عذاب الآخرة:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 2814 ] ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر ..

                                                                                                                                                                                                                                      لكن ظلال الرحمة تتراءى من وراء هذا العذاب الأدنى; فالله سبحانه وتعالى لا يحب أن يعذب عباده إذا لم يستحقوا العذاب بعملهم، وإذا لم يصروا على موجبات العذاب. فهو يوعدهم بأن يأخذهم بالعذاب في الأرضلعلهم يرجعون .. وتستيقظ فطرتهم، ويردهم ألم العذاب إلى الصواب. ولو فعلوا لما صاروا إلى مصير الفاسقين الذي رأيناه في مشهدهم الأليم. فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها؟ وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: إنا من المجرمين منتقمون .. ويا هوله من تهديد. والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب!

                                                                                                                                                                                                                                      وتنتهي تلك الجولة مع مصائر المجرمين والصالحين، وعواقب المؤمنين والفاسقين، ومشاهد هؤلاء وهؤلاء في اليوم الذي يشكون فيه ويستريبون. ثم يأخذ سياق السورة في جولة جديدة مع موسى وقومه ورسالته. جولة مختصرة لا تزيد على إشارة إلى كتاب موسى - عليه السلام - الذي جعله الله هدى لبني إسرائيل; كما جعل القرآن كتاب محمد - صلى الله عليه وسلم - هدى للمؤمنين. وإلى التقاء صاحب القرآن مع صاحب التوراة على الأصل الواحد والعقيدة الثابتة. وإلى اصطفاء الصابرين الموقنين من قوم موسى ليكونوا أئمة لقومهم إيحاء للمسلمين في ذلك الحين بالصبر واليقين، وبيانا للصفة التي تستحق بها الإمامة في الأرض والتمكين:

                                                                                                                                                                                                                                      ولقد آتينا موسى الكتاب - فلا تكن في مرية من لقائه وجعلناه هدى لبني إسرائيل. وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون. إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      وتفسير هذه العبارة المعترضة: فلا تكن في مرية من لقائه على معنى تثبيت الرسول - صلى الله عليه وسلم - على الحق الذي جاء به; وتقرير أنه الحق الواحد الثابت الذي جاء به موسى في كتابه; والذي يلتقي عليه الرسولان ويلتقي عليه الكتابان.. هذا التفسير أرجح عندي مما أورده بعض المفسرين من أنها إشارة إلى لقاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لموسى عليه السلام في ليلة الإسراء والمعراج.فإن اللقاء على الحق الثابت، والعقيدة الواحدة، هو الذي يستحق الذكر، والذي ينسلك في سياق التثبيت على ما يلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من التكذيب والإعراض، ويلقاه المسلمون من الشدة واللأواء. وكذلك هو الذي يتسق مع ما جاء بعده في الآية: وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون .. للإيحاء للقلة المسلمة يومذاك في مكة أن تصبر كما صبر المختارون من بني إسرائيل، وتوقن كما أيقنوا، ليكون منهم أئمة للمسلمين كما كان أولئك أئمة لبني إسرائيل. ولتقرير طريق الإمامة والقيادة، وهو الصبر واليقين.

                                                                                                                                                                                                                                      أما اختلاف بني إسرائيل بعد ذلك فأمرهم فيه متروك إلى الله:

                                                                                                                                                                                                                                      إن ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ..

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية