الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              1765 1864 - حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير ، عن [ ص: 479 ] قزعة -مولى زياد- قال: سمعت أبا سعيد -وقد غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثنتي عشرة -غزوة -قال: أربع سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: يحدثهن عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعجبنني وانقنني: "أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم يومين: الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين: بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد: الحرام، ومسجدي، ومسجد الأقصى". [انظر: 586 - مسلم: 827 - فتح: 4 \ 73]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              وقال لي أحمد بن محمد : ثنا إبراهيم، عن أبيه، عن جده: أذن عمر - رضي الله عنه - لأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - في آخر حجة حجها، فبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن.

                                                                                                                                                                                                                              ثم ساق بإسناده من حديث عائشة بنت طلحة، عن عائشة أم المؤمنين قالت: قلت: يا رسول الله، ألا نغزوا ونجاهد معكم؟ فقال: "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج، حج مبرور". فقالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث أبي معبد -مولى ابن عباس - عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ولا يدخل عليها رجل إلا ومعها محرم" فقال رجل: يا رسول الله، إني أريد أن أخرج في جيش كذا وكذا، وامرأتي تريد الحج. فقال: "اخرج معها".

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث عطاء، عن ابن عباس قال: لما رجع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حجته قال لأم سنان الأنصارية: "ما منعك من الحج؟ ".. الحديث، وقد سلف في العمرة، رواه ابن جريج عن عطاء، عن ابن عباس ، [ ص: 480 ] عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقال عبيد الله عن عبد الكريم ، عن عطاء، عن جابر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.

                                                                                                                                                                                                                              ومن حديث زياد سمعت أبا سعيد -وقد غزا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ثنتي عشرة غزوة- قال: أربع سمعتهن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو قال: يحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم - فأعجبنني وآنقنني: "أن لا تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها أو ذو محرم، ولا صوم يومين الفطر والأضحى، ولا صلاة بعد صلاتين: بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد الأقصى".

                                                                                                                                                                                                                              الشرح:

                                                                                                                                                                                                                              التعليق الأول أسنده البيهقي من حديث عبدان، أنا إبراهيم -يعني: ابن سعد- به، وفي آخره: فنادى الناس عثمان: ألا لا يدن منهن أحد ولا ينظر إليهن إلا مد البصر وهن في الهوادج على الإبل، وأنزلهن صدر الشعب، ونزل عثمان وابن عوف بذنبه فلم يتعد إليهن أحد، ثم قال: رواه -يعني: البخاري في "الصحيح"- عن أحمد بن محمد ، عن إبراهيم بن سعد مختصرا.

                                                                                                                                                                                                                              وقال الجياني: أحمد هذا هو ابن محمد بن الوليد الأزرقي أبو محمد المكي. و[إبراهيم] قال الحميدي في "جمعه" عن البرقاني: إنه [ ص: 481 ] إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. ثم قال: وفيه نظر.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث عائشة من أفراده، وسيأتي في باب جهاد النساء، وحديث ابن عباس أخرجه مسلم أيضا، وقيل: إن أبا معبد أصدق مواليه، وليس في مواليه ضعيف جدا إلا شعبة، قال مالك: لم يكن يشبه الفراء.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي سعيد أخرجه مسلم أيضا، وقد سلف في باب مسجد بيت المقدس، وإذن عمر الظاهر أنه في الحج. وقال الداودي: أذن في التقديم ليلا من مزدلفة إلى منى.

                                                                                                                                                                                                                              وحديث أبي داود "هذه ثم ظهور الحصر" قاله في حجة الوداع [ ص: 482 ] يحمل على ملازمة البيوت، فحديثها هنا صريح في الإذن; لقوله: "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج مبرور" ولما سمعت صفية هذا القول منه لم تحج بعدها.

                                                                                                                                                                                                                              وأعجبنني وآنقنني معناهما واحد، قال المهلب: وقوله: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور" يبطل إفك المتشيعين، وكذب الرافضة فيما اختلقوه من الكذب عليه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأزواجه في حجة الوداع: "هذه ثم ظهور الحصر".

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قد أسلفنا أن أبا داود أخرجه، قال: وهذا ظاهر الاختلاف; لأنه - عليه السلام - حضهن على الحج، وبشرهن أنه أفضل جهادهن، وأذن عمر لهن في الحج، ومسير عثمان وغيره من أئمة الهدى معهن حجة قاطعة على الإجماع على ما كذب به الشارع في أمر عائشة، والتسبب إلى عرضها المطهر.

                                                                                                                                                                                                                              وكذا قولهم: "تقاتلي فلانا وأنت ظالمة" إفك وباطل لا يصح.

                                                                                                                                                                                                                              وأما سفرها إلى مكة مع غير ذي محرم منها من النسب; فالمسلمون كلهم أبناؤها وذوو محارمها بكتاب الله، وكيف أنها كانت تخرج في رفقة [ ص: 483 ] مأمونة وخدمة كافية؟! هذه الحال ترفع تحريج التنازع على النساء المسافرات بغير ذي محرم، كذلك قال مالك والأوزاعي والشافعي: تخرج المرأة في حجة الفريضة مع جماعة النساء في رفقة مأمونة، وإن لم يكن معها محرم. وجمهور العلماء على جواز ذلك، وكان ابن عمر تحج معه نسوة من جيرانه، وهو قول عطاء وسعيد بن جبير وابن سيرين والحسن البصري، وقال الحسن: المسلم محرم ولعل بعض من ليس بمحرم أوثق من المحرم، وقال ابن سيرين: تخرج مع رجل من المسلمين لا بأس به.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا تحج المرأة إلا مع ذي محرم. وهو قول أحمد وإسحاق وأبي ثور وإبراهيم والحسن وفقهاء أصحاب الحديث، قال أبو حنيفة: إلا أن يكون بينها وبين مكة أقل من ثلاثة أيام. نقله ابن التين عنه، وحملوا نهيه على العموم في كل سفر، وحمله مالك وجمهور الفقهاء على الخصوص، وأن المراد بالنهي الأسفار غير الواجبة عليها، واحتجوا بعموم قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت [آل عمران: 97] فدخلت المرأة في هذا الخطاب ولزمها فرض الحج، ولا يجوز أن تمنع المرأة من الفروض كما لا تمنع من الصلاة والصيام، ألا ترى أن عليها أن تهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام إذا أسلمت فيه بغير محرم، وكذلك كل واجب [ ص: 484 ] عليها لها أن تخرج فيه، فثبت بهذا أن نهيه عن سفرها مع غير ذي محرم أنه أراد بذلك سفرا غير واجب عليها. ثم اعلم أنه جاء في حديث ابن عباس : المحرم. وفي حديث أبي سعيد: الزوج. وسلف في باب كم يقصر الصلاة: "ليس معها حرمة" وهنا: مسيرة يومين، وهناك: ثلاثة أيام، ويوم وليلة، ولمسلم: ليلة. ولأبي داود: بريد. واختلافهما إما بحسب السائل أو لاختلاف المواطن، فأجاب في كل بما يواقعه، أو يوم وليلة مع جمعهما، أو يكون تمثيلا لأقل الأعداد وأكثره وجمعه، ويجوز أن يكون الثلاث أولا ثم رأى المصلحة فيما دونها فمنع من مطلق ما يسمى سفرا. وعن أحمد رواية ثانية: أن المحرم ليس من شرط لزوم السفر دون الوجوب. وثالثة: أن المحرم ليس بشرط في الحج الواجب، ومذهبه الأولى كما قال ابن قدامة، وعن الأوزاعي أن القوافل العظيمة والطرق العامرة مثل البلاد فيها الأسواق والتجار يحصل الأمن لها دون محرم أو امرأة.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن بطال: اتفق الفقهاء أن ليس للرجل منع زوجته حجة الفريضة، وأنها تخرج للحج بغير إذنه، وللشافعي قول أنها لا تخرج [ ص: 485 ] إلا بإذنه، قال: وأصح قوليه ما وافق سائر العلماء. قلت: الذي صححه المتأخرون الثاني، وأن له منعها.

                                                                                                                                                                                                                              وفيه حديث في الدارقطني من حديث ابن عمر ، لكن في إسناده مجهول. وقد أجمعوا أنه لا يمنعها من صلاة ولا صيام فرض، فكذا الحج.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 486 ] فرع:

                                                                                                                                                                                                                              سفرها مع عبدها كالمحرم; لأنه محرم، وفي حديث أبي داود: "إنما هو أبوك وزوجك ومولاك".

                                                                                                                                                                                                                              وأخرج البزار من حديث إسماعيل بن عياش، عن بزيع بن عبد الرحمن ، عن عمر مرفوعا: "سفر المرأة مع عبدها حجة ضعيفة".

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 487 ] فرع:

                                                                                                                                                                                                                              قوله في حديث ابن عباس : "اخرج معها" هو للندب لا للوجوب، كما ستعلمه في بابه من الجهاد إن شاء الله تعالى.

                                                                                                                                                                                                                              فرع:

                                                                                                                                                                                                                              احتج أبو حنيفة بحديث الباب على أنه أقل ما تقصر فيه الصلاة، ورده البخاري وغيره بحديث أبي هريرة مرفوعا: "يوما وليلة" كما سلف في موضعه.

                                                                                                                                                                                                                              فائدة:

                                                                                                                                                                                                                              قد أسلفنا: أن ابن مسلمة أضاف إليهن رابعا وهو: مسجد قباء.

                                                                                                                                                                                                                              أخرى: قوله: "مسجد الأقصى" هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه، ففيه المذهبان المشهوران.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية