الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              293 [ ص: 22 ] 3 - باب: قراءة الرجل في حجر امرأته وهي حائض وكان أبو وائل يرسل خادمه وهي حائض إلى أبي رزين، فتأتيه بالمصحف فتمسكه بعلاقته.

                                                                                                                                                                                                                              297 - حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، سمع زهيرا، عن منصور ابن صفية، أن أمه حدثته، أن عائشة حدثتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن. [7549 - مسلم: 301 - فتح: 1 \ 401] .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، سمع زهيرا، عن منصور ابن صفية، أن أمه حدثته، أن عائشة حدثتها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتكئ في حجري وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن.

                                                                                                                                                                                                                              والكلام على ذلك من أوجه:

                                                                                                                                                                                                                              أحدها:

                                                                                                                                                                                                                              ما ذكره أولا معلقا ذكره ابن أبي شيبة فقال: حدثنا جرير عن مغيرة: كان أبو وائل، فذكره.

                                                                                                                                                                                                                              ثانيها:

                                                                                                                                                                                                                              هذا الحديث أخرجه البخاري أيضا في التوحيد، وأخرجه مسلم أيضا (وأبو داود والنسائي وابن ماجه).

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 23 ] ثالثها:

                                                                                                                                                                                                                              أبو وائل اسمه: شقيق بن سلمة الأسدي تابعي، سلف، وفي أبي داود آخر كنيته كذلك واسمه: عبد الله بن بحير الصنعاني ولا ثالث لهما في الكتب الستة.

                                                                                                                                                                                                                              وأبو رزين اسمه: مسعود (م. الأربعة) بن مالك هو مولى أبي وائل تابعي أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              ومنصور ابن صفية هو ابن عبد الرحمن بن طلحة العبدري الحجبي المكي الخاشع البكاء، صالح الحديث، مات سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومائة، ووالدته لها رؤية، سلفت، ووالدها شيبة العبدري حاجب البيت.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 24 ] رابعها:

                                                                                                                                                                                                                              قولها: (في حجري). هو بفتح الحاء وكسرها، ووقع للعذري في مسلم (حجرتي) بمثناة فوق قبل الياء، وهو وهم، ووقع لبعض رواة مسلم: (وأنا حائضة)، والأفصح: حائض. وللنحاة في الأولى وجهان:

                                                                                                                                                                                                                              أحدهما: أن حائض وطالق مما لا شركة فيه للمذكر، فاستغنى عن العلامة.

                                                                                                                                                                                                                              وأصحهما: أن ذلك على طريق النسب إلى ذات حيض وذات طلاق.

                                                                                                                                                                                                                              ومعنى (يتكئ): يميل بإحدى شقيه كما سلف.

                                                                                                                                                                                                                              خامسها:

                                                                                                                                                                                                                              وجه مناسبة [ذكر البخاري ما ذكر عن أبي وائل في هذا الباب، أنه لما ذكر جواز حمل الحائض العلاقة التي فيها المصحف نظرها بمن يحفظ القرآن، فهو حامله؛ لأنه في جوفه؛ لما روي عن ابن المسيب وابن جبير، وعن ابن عباس أنه كان يقرأ ورده وهو جنب، فقال: في جوفي أكثر من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                              ووجه مناسبته إدخال حديث عائشة فيه أن ثيابها بمنزلة العلاقة، والشارع بمنزلة المصحف؛ لأنه في جوفه وحامله؛ إذ غرض البخاري بهذا الباب الدلالة على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها القرآن، فالمؤمن الحافظ له أكبر أوعيته، وها هو - صلى الله عليه وسلم - أفضل [ ص: 25 ] المؤمنين؛ لعموم رسالته، وحرمة ما أودع من طيب كلامه -في حجر حائض تاليا للقرآن.. إلخ قولها: (فيقرأ القرآن) قد يقال: فيه إشارة إلى المنع؛ لأنه إنما يحسن التنصيص عليه إذا كان ثم ما يوهم منعه، ولو كانت جائزة لكان هذا الوهم منطقيا، وقد اختلف العلماء في ذلك، فمن رخص للحائض والجنب في حمل المصحف بعلاقته: الحكم بن عتيبة، وعطاء، وسعيد بن جبير، وحماد بن أبي سليمان، والحسن، ومجاهد، وطاوس، وأبو وائل، وأبو رزين، وهو قول أهل الظاهر.

                                                                                                                                                                                                                              وقال جمهور العلماء: لا يمسه حائض ولا جنب، ولا يحمله إلا طاهر غير محدث وروي ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك، والأوزاعي، والثوري، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي ثور، والشعبي، القاسم بن محمد، وأجاز محمد بن سيرين والشعبي مسه من غير وضوء.

                                                                                                                                                                                                                              ومنع الحكم مسه بباطن الكف خاصة، كذا نقل عنه، وفيه مخالفة لما مضى. حجة من أجاز الحديث السالف: "إن المؤمن لا ينجس"، وكتب - صلى الله عليه وسلم - إلى هرقل آية من القرآن، ولو كان حراما ما كتبها إليه؛ [ ص: 26 ] لأنه يمسونه بأيديهم، وذكر ابن أبي شيبة أن سعيد بن جبير دفع المصحف بعلاقته إلى غلام له مجوسي.

                                                                                                                                                                                                                              واحتج الجمهور بقوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون [الواقعة: 79] وبحديث عمرو بن حزم مرفوعا: "لا يمس القرآن إلا طاهر" وهو حديث جيد.

                                                                                                                                                                                                                              وبأن عائشة رضي الله عنها كانت تقرأ القرآن وهي حائض، ويمسك لها المصحف، ولا تمسكه هي.

                                                                                                                                                                                                                              والجواب عن بعثه هرقل أنه رخص في ذلك لمصلحة الإبلاغ والإنذار، ولم يقصد به التلاوة [...] البسملة والحمدلة على قطعة [...].

                                                                                                                                                                                                                              اعترض الأولون بأن المراد بالمطهرين الملائكة، كما قاله قتادة، والربيع بن أنس، وأنس بن مالك ومجاهد بن جبر وغيرهم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 27 ] ونقله السهيلي عن مالك قال: ويؤكده أنه تعالى لم يقل: المتطهرين، وفرق ما بين المتطهر والمطهر؛ وذلك أن المتطهر من فعل الطهور، وأدخل نفسه فيه كالمنفعة، كذلك المنفصل في أكثر الكلام. واستبعده بعضهم؛ لأنهم كلهم مطهرون، ومسه والاطلاع عليه إنما هو لبعضهم؛ ولأن تخصيص الملائكة من بين سائر المتطهرين على خلاف الأصل.

                                                                                                                                                                                                                              وقال أبو محمد بن حزم: قراءة القرآن والسجود به، ومس المصحف، وذكر الله تعالى جائز كل ذلك بوضوء وبلا وضوء للجنب والحائض، وهو قول ربيعة وسعيد بن المسيب، وابن جبير وابن عباس وداود وجميع أصحابنا.

                                                                                                                                                                                                                              قال: والآثار التي احتج بها من لم يجز للجنب مسه، فلا يصح منها شيء؛ لأنها إما مرسلة، وإما صحيفة لا تسند، وإما عن مجهول، وإما عن ضعيف، والصحيح حديث ابن عباس، عن أبي سفيان حديث هرقل الذي فيه: و يا أهل الكتاب تعالوا الآية [آل عمران: 64]، فهذا الشارع قد بعث كتابا فيه قرآن إلى النصارى، وقد أيقن أنهم يمسونه.

                                                                                                                                                                                                                              وقد أسلفنا الجواب عن هذا، قال: فإن ذكروا حديث ابن عمر: نهي أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو.

                                                                                                                                                                                                                              قلنا: هذا حق يلزم اتباعه، وليس فيه لا يمس المصحف جنب ولا كافر، وإنما فيه أن لا ينال أهل الحرب القرآن فقط.

                                                                                                                                                                                                                              فإن قالوا: إنما بعث إلى هرقل بآية واحدة.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 28 ] قيل لهم: ولا يمنع من غيرها، وأنتم أهل قياس فقيسوا، فإن لم تقيسوا على الآية ما هو أكثر منها، فلا تقيسوا على هذه الآية غيرها، فإن ذكروا قوله -عز وجل: لا يمسه إلا المطهرون [الواقعة: 79] .

                                                                                                                                                                                                                              قلنا: لا حجة فيه؛ لأنه ليس أمرا، وإنما هو خبر، والرب تعالى لا يقول إلا حقا، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي أو إجماع متيقن، فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغيره علمنا أنه لم يعن المصحف، وإنما عنى كتابا آخر عنده كما جاء، عن سعيد بن جبير في هذه الآية، هم الملائكة الذين في السماء، وعن سلمان أنه الذكر في السماء لا يمسه إلا الملائكة.

                                                                                                                                                                                                                              وكان علقمة إذا أراد أن يتخذ مصحفا أمر نصرانيا فنسخه له.

                                                                                                                                                                                                                              ثم نقل عن أبي حنيفة أنه لا بأس أن يحمل الجنب المصحف بعلاقته، وغير المتوضئ عنده كذلك، وأبى ذلك مالك إلا إن كان في خرج أو تابوت، فلا بأس أن يحمله الجنب واليهودي والنصراني.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 29 ] قال: وهذه تفاريق لا دليل على صحتها. هذا آخر كلامه وفيه نظر، فقد صح فيها حديث عمرو بن حزم السالف، صححه ابن حبان، والحاكم.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 30 ] ..........................

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 31 ] وحديث ابن عمر مرفوعا: "لا يمس القرآن إلا طاهر" رواه الدارقطني بإسناد جيد، فقالت أخت عمر له: إنك رجس، ولا يمسه [ ص: 32 ] إلا المطهرون، وهو مروي في السير وقد أسنده الدارقطني والبيهقي في "دلائله".

                                                                                                                                                                                                                              ورواه الدارقطني أيضا من حديث حكيم بن حزام، وأمر به سعد بن أبي وقاص كما رواه مالك. وقاله سلمان أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 33 ] وله شاهد من حديث عثمان بن أبي العاص، ومعاذ، وثوبان [ ص: 34 ] فاعتضد وقوي.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن حزم: وقد جاءت أحاديث في نهي الجنب ومن ليس على طهر من أن يقرأ القرآن، ولا يصح منها شيء.

                                                                                                                                                                                                                              قلت: قد روي في ذلك أحاديث منها: حديث عبد الله بن رواحة: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقرأ أحدنا القرآن وهو جنب.

                                                                                                                                                                                                                              قال ابن عبد البر: رويناه من وجوه صحاح.

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث علي مرفوعا: "لا يحجبه عن القرآن إلا الجنابة" صححه الترمذي وغيره.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 35 ] ومنها: حديث عائشة مرفوعا: "لا يقرأ الجنب والحائض شيئا من القرآن". رواه الحاكم في "تاريخ نيسابور".

                                                                                                                                                                                                                              ومنها: حديث ابن عمر مرفوعا مثله، رواه الدارقطني والبيهقي، ولم ينفرد به إسماعيل بن عياش بل توبع.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 36 ] ............................

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 37 ] ومنها: حديث جابر مرفوعا مثله رواه الدارقطني أيضا.

                                                                                                                                                                                                                              وصح عن عمر أنه كان يكره أن يقرأ القرآن وهو جنب، كما قال البيهقي وفي لفظ كذلك والحائض ورفعه ضعيف.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 38 ] ومنها: حديث علي مرفوعا: "يا علي لا تقرأ القرآن وأنت جنب" رواه الدارقطني.

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن مسعود: وكان يقرئ رجلا فكف عنه. قال له: مالك؟ قال: إنك بلت. أي: لست بجنب.

                                                                                                                                                                                                                              وبه قال الشعبي، والأسود، وإبراهيم، وأبو وائل، وروي عن عمر، وعلي، والحسن، وقتادة.

                                                                                                                                                                                                                              وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم كما نقله البغوي في "شرح السنة".

                                                                                                                                                                                                                              وبه قال أبو حنيفة، والشافعي وأحمد، وأجاز مالك للحائض القراءة القليلة استحسانا لطول مقامها وعنه الإباحة مطلقا، وأباحه قوم، وكان ابن عباس لا يرى بالقراءة للجنب بأسا كما سيأتي عن البخاري.

                                                                                                                                                                                                                              [ ص: 39 ] وقال إبراهيم النخعي: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض الآية ونحوها، وأجاز عكرمة للجنب أن يقرأ، وليس له أن يتم سورة كاملة ذكره الطبري، وقال الأوزاعي: لا يقرأ إلا آية الركوب وآية النزول.

                                                                                                                                                                                                                              فروع غريبة:

                                                                                                                                                                                                                              المتيمم يمس المصحف خلافا للأوزاعي، وقال أبو يوسف: لا يمسه الكافر. وخالف محمد، فقال: لا بأس به إذا اغتسل.

                                                                                                                                                                                                                              ولا بأس بتعليم المعلم الصبيان حرفا حرفا للحاجة، كما قال بعض الحنفية. قال: ولا تكره قراءة المبدل من التوراة والإنجيل والزبور، ولا تكره قراءة القنوت في ظاهر الرواية، وكرهها محمد لشبه القرآن؛ لأن أبيا كتبه في مصحفه بثلثين، ولا فرق بين الآية فما دونها في رواية الكرخي، وفي رواية الطحاوي مباح لهما ما دون الآية، وهو عن أحمد.

                                                                                                                                                                                                                              ونقل ابن حزم عن مالك أن الجنب يقرأ الآيتين ونحوهما، وأن الحائض تقرأ ما شاءت.




                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية