الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2499 ص: والوجه عندنا في ذلك: أنه قد يجوز أن يكون رسول الله - عليه السلام - كان يوتر على الراحلة قبل أن يحكم الوتر ويغلظ أمره ثم أحكم من بعد ولم يرخص في تركه فروي عنه ما حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب ، قال: حدثني موسى بن أيوب الغافقي ، عن عمه إياس بن عامر ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "أن رسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي من الليل وعائشة معترضة بين يديه، فإذا أراد أن يوتر أومأ إليها أن تنحي، وقال: هذه صلاة زدتموها".

                                                [ ص: 422 ] حدثنا عبد الرحمن بن الجارود، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا موسى بن أيوب ... فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب ، قال: ثنا ابن لهيعة والليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن راشد ، عن عبد الله بن أبي قرة ، عن خارجة بن حذافة العدوي، أنه قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الله قد أمدكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم -ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر- الوتر الوتر ; مرتين".

                                                حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب . . . فذكر بإسناده مثله.

                                                حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو عبد الرحمن المقرئ، قال: ثنا ابن لهيعة ، أن أبا تميم عبد الله بن مالك الجيشاني أخبره، أنه سمع عمرو بن العاص - رضي الله عنه - يقول: أخبرني رجل من أصحاب النبي - عليه السلام - أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الله قد زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر الوتر.

                                                ألا وإنه أبو بصرة الغفاري، قال أبو تميم: فكنت أنا وأبو ذر قاعدين ; فأخذ أبو ذر بيدي فانطلقنا إلى أبي بصرة فوجدناه عند الباب الذي يلي دار عمرو بن العاص ، فقال له أبو ذر : يا أبا بصرة أنت سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: إن الله قد زادكم صلاة فصلوها فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر، الوتر الوتر. فقال أبو بصرة: نعم. فقال: أنت سمعته يقوله: قال: نعم. قال: أنت سمعته يقوله؟ قال: نعم".


                                                فأكد في هذه الآثار أمر الوتر ولم يرخص لأحد في تركه، وقد كان قبل ذلك ليس من التأكيد كذلك، فيجوز أن يكون ما روى ابن عمر عن رسول الله - عليه السلام - من وتره على الراحلة كان ذلك من قبل تأكيده إياه، ثم أكده من بعد ذلك نسخ.

                                                [ ص: 423 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 423 ] ش: هذا جواب عما قاله أهل المقالة الأولى وهو الذي ذكره عنهم بقوله: "فكان من الحجة لأهل المقالة الأولى. . . " إلى آخره، تقريره أن يقال: إن الذي ذكرتموه ولئن سلمنا أنه كذلك، ولكن يجوز أن يكون وتر النبي - عليه السلام - على الراحلة قبل أن يحكم أمر الوتر ويغلظ شأنه ; وذلك لأنه كان أولا كسائر التطوعات فلذلك كانوا يصلونها على الراحلة، فلما أحكم أمره وشدد فصار كالفرض منع من ذلك كالفرض، ولما صار كالفرض صار حكمه حكم الفرض، وقد أجمعوا أن الفرض لا يجوز على الراحلة عند القدرة على النزول فكذلك الوتر.

                                                ثم أخرج عن ثلاثة من الصحابة ما يدل على وجوب الوتر، وهم: علي وخارجة بن حذافة وأبو بصرة الغفاري - رضي الله عنهم -.

                                                أما حديث علي - رضي الله عنه - فأخرجه من طريقين صحيحين:

                                                أحدهما: عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري بحشل شيخ مسلم وأبي حاتم والطبري أيضا، عن عمه عبد الله بن وهب المصري ، عن موسى بن أيوب بن عامر الغافقي المصري وثقه أحمد وأبو داود وروى له، وابن ماجه والنسائي في مسند علي - رضي الله عنه -، عن عمه إياس بن عامر الغافقي المصري، وثقه ابن حبان وروى له هؤلاء عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

                                                والآخر: عن عبد الرحمن بن جارود بن عبد الله أبي بشر الكوفي، ثم البغدادي ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري ، عن موسى بن أيوب الغافقي ، عن عمه إياس بن عامر ، عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -.

                                                ويستفاد منه: جواز الصلاة إلى المرأة وجوازها إلى نائم، وأن المرأة لا تقطع الصلاة، وأن الإشارة في الصلاة لا تفسدها، واستحباب صلاة الليل، ووجوب صلاة الوتر بقوله - عليه السلام -: "هذه صلاة زدتموها" وأشار بـ"هذه" إلى صلاة الوتر.

                                                وقوله: "زدتموها" بكسر الزاي من زاد، وهو يتعدى ولا يتعدى، وها هنا متعد إلى مفعولين: أحدهما: الضمير الذي في زدتم الذي هو ضمير منصوب

                                                [ ص: 424 ] ولكنه ناب عن الفاعل، والثاني: الهاء التي ترجع إلى صلاة الوتر، وينبغي أن تعلم أن لفظة: "زدتم" ها هنا صيغة مجهول وإن كان مثل هذه اللفظة تستوي فيها صيغة المعلوم والمجهول، والفرق بالقرينة، فافهم.

                                                وأما حديث خارجة بن حذافة فأخرجه أيضا من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن يونس بن عبد الأعلى شيخ مسلم ، عن عبد الله بن وهب المصري ، عن عبد الله بن لهيعة المصري والليث بن سعد المصري كلاهما، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، عن عبد الله بن راشد الزوفي أبي الضحاك المصري -وثقه ابن حبان ، وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه - عن عبد الله ابن أبي مرة الزوفي المصري -وثقه ابن حبان وروى له هؤلاء- عن خارجة بن حذافة العدوي القرشي الصحابي المصري له هذا الحديث.

                                                وأخرجه ابن ماجه : ثنا محمد بن رمح المصري، أنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب . . . إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه الترمذي أيضا: ثنا قتيبة ، قال: ثنا الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن راشد الزوفي ، عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي ، عن خارجة بن حذافة قال: "خرج علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم: الوتر جعله الله لكم فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلع الفجر".

                                                وقال أبو عيسى: حديث خارجة بن حذافة حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي حبيب ، وقد وهم بعض المحدثين في هذا الحديث فقال: عبد الله بن راشد الزرقي، وهو وهم.

                                                [ ص: 425 ] وأخرجه البيهقي أيضا: من حديث الليث وابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب . . . إلى آخره نحو رواية الطحاوي .

                                                وقال: ورواه ابن إسحاق عن يزيد فقال: عبد الله بن مرة .

                                                وقال الذهبي في "مختصر سنن البيهقي ": وهو عند ابن لهيعة عن رزين بن عبد الله الزوفي ، عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي .

                                                ورواه أيضا أحمد في "مسنده"، والدارقطني في "سننه"، والطبراني في "معجمه"، وابن عدي في "كامله"، وأخرجه الحاكم في "مستدركه"، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه لتفرد التابعي في الصحابي.

                                                قلت: كأنه يشير إلى أن خارجة تفرد عنه ابن أبي مرة، وليس كذلك ; لما ذكره أبو عبيد الله محمد بن الربيع الجيزي في كتاب "الصحابة" بالبينة، روى عنه أيضا عبد الرحمن بن جبير قال: ولم يرو عنه غير أهل مصر.

                                                وقال أبو زيد في كتاب "الأسرار": هو حديث مشهور.

                                                ولما أخرجه أبو داود سكت عنه، ومن عادته إذا سكت عن حديث أخرجه يدل على صحته عنده ورضاه به.

                                                [ ص: 426 ] فإن قيل: أعل ابن الجوزي في التحقيق هذا الحديث بعبد الله بن راشد، ونقل عن الدارقطني أنه ضعفه.

                                                وقال البخاري : لا يعرف لإسناد هذا الحديث سماع بعضهم من بعض.

                                                قلت: عبد الله بن راشد وثقه ابن حبان والحاكم والدارقطني أخرج حديثه هذا ولم يتعرض إليه بشيء، وإنما تعرض إلى الحديث الذي أخرجه عن ابن عباس فقال: ثنا الحسين بن إسماعيل، نا محمد بن خلف المقرئ، نا أبو يحيى الحماني عبد الحميد، ثنا النضر أبو عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : "أن رسول الله - عليه السلام - خرج عليهم يرى البشر أو السرور في وجهه، فقال: إن الله قد أمدكم بصلاة وهي الوتر".

                                                النضر أبو عمر الخزاز ضعيف، وهذا الحديث مما يقوي حديث خارجة المذكور ويزيده قوة في صحته، فافهم.

                                                الطريق الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي شيخ البخاري وأبي داود ، عن الليث بن سعد ، عن يزيد بن أبي حبيب . . . إلى آخره نحوه.

                                                وأخرجه أبو داود : ثنا أبو الوليد الطيالسي وقتيبة بن سعيد المعنى، قالا: ثنا ليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الله بن راشد الزوفي ، عن عبد الله بن أبي مرة الزوفي ، عن خارجة بن حذافة ، قال أبو الوليد: "خرج علينا رسول الله - عليه السلام - فقال: "قد أمدكم الله بصلاة وهي خير لكم من حمر النعم وهي الوتر، فجعلها لكم فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر".

                                                قوله: "أمدكم" من الإمداد، يقال: مد الله في عمرك وأمد السلطان الجيش يعني بزيادة تلحقهم، ونسب النبي - عليه السلام - زيادة الوتر إلى الله تعالى بأمره وإيجابه، [ ص: 427 ] ولو لم يكن واجبا لكان بمنزلة التراويح والسنن التي واظب عليها ولم يجعلها زيادة في الفرائض.

                                                فإن قيل: فقد قال الأعرابي لسيدنا رسول الله - عليه السلام - حين سأله عن الصلوات: "هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع"، وقال لمعاذ - رضي الله عنه - إذ أرسله إلى اليمن: "أخبرهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات".

                                                قلت: في قوله: "زادكم" إشارة إلى أنها متأخرة عن وجوب الخمس، وأيضا لم يقل أحد بفرضيته والوجوب غير الفريضة.

                                                فإن قيل: لو كان واجبا لما صلاه - عليه السلام - على الراحلة إذ الفرائض لا تؤدى على الراحلة إلا بشروط.

                                                قلت: أنتم تقولون بفرضيته على النبي - عليه السلام - على ما هو الصحيح عندكم، وقال ابن عقيل : صح أن الوتر كان واجبا عليه.

                                                فإن قالوا: قال القرافي في "الذخيرة ": الوتر في السفر ليس واجبا عليه، وصلاته إياه على الراحلة كانت في السفر.

                                                يقال لهم: يكفي في هذا أنه قول بغير استناد إلى سنة صحيحة ولا ضعيفة، هذا ابن عمر - رضي الله عنه - يروي عنه الطحاوي أنه كان يصلي على راحلته ويوتر بالأرض ويزعم أن رسول الله كان يفعل ذلك.

                                                وقال الدارقطني : ثنا عبد الله بن سليمان، ثنا عيسى بن حماد، ثنا الليث ، عن ابن الهاد ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : "أن رسول الله كان لا يوتر على راحلته".

                                                وسنده صحيح على شرط مسلم .

                                                فإن قيل: قال الخطابي : قوله: "أمدكم بصلاة " يدل على أنها غير لازمة لهم،

                                                [ ص: 428 ] ولو كانت واجبة لخرج الكلام فيه على صيغة لفظ الإلزام فيقول: ألزمكم أو فرض عليكم أو نحو ذلك من الكلام.

                                                وقد روي أيضا في هذا الحديث: "إن الله قد زادكم صلاة"، ومعناه الزيادة في النوافل ; وذلك أن نوافل الصلوات شفع لا وتر فيها فقيل: أمدكم بصلاة وزادكم صلاة لم تكونوا تصلونها قبل ذلك على تلك الصورة والهيئة وهي الوتر.

                                                وفيه: دليل على أن الوتر لا يقضى بعد طلوع الفجر، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد ، وهو قول عطاء ، وقال سفيان الثوري وأصحابه: يقضي الوتر وإن كان قد صلى الفجر. وكذلك قال الأوزاعي .

                                                قلت: لا نسلم أن قوله: "أمدكم بصلاة" يدل على أنها غير لازمة ; بل يدل على أنها لازمة ; وذلك لأنه نسب ذلك إلى الله تعالى، فلا يكون ذلك إلا واجبا، وتعيين العبارة ليس بشرط في الوجوب، وقوله: "ومعناه الزيادة في النوافل" غير صحيح ; لأن الزيادة من الله لا تكون نفلا وإنما يكون ذلك إذا كان من النبي - عليه السلام - بشرط عدم المواظبة ; فحينئذ سقط قوله أيضا: وفيه دليل على أن الوتر لا يقض بعد طلوع الفجر، بل الأحاديث التي تدل على وجوبه تدل على أنه يقضى، وهو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ، وعن أبي يوسف: لا قضاء عليه، وعن محمد: أحب إلي أن يقضيه، وعن الشافعي : لا يجب عليه القضاء، وعن أحمد وأبي مصعب واللخمي المالكي: لا يقضي بعد الفجر.

                                                فإن قيل: لم يقل بوجوب الوتر غير أبي حنيفة ؟ حتى قال القاضي أبو الطيب: إن العلماء كافة قالت إن الوتر سنة حتى أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة وحده: هو واجب.

                                                وقال أبو حامد في "تعليقه": الوتر سنة مؤكدة ليس بفرض ولا واجب، وبه قالت الأمة كلها إلا أبا حنيفة .

                                                [ ص: 429 ] قلت: لا نسلم انفراد أبي حنيفة بهذا القول.

                                                هذا القاضي أبو بكر بن العربي ذكر عن سحنون وأصبغ بن الفرج وجوبه، وحكى ابن حزم أن مالكا قال: من تركه أدب وكانت حرجة في شهادته.

                                                وفي "المصنف" بسند صحيح: عن مجاهد : "هو واجب ولم يكتب".

                                                وحكى ابن بطال وجوبه عن يوسف بن خالد السمتي شيخ الشافعي ، ووجوبه على أهل القرآن عن ابن مسعود وحذيفة وإبراهيم النخعي .

                                                وحكاه ابن أبي شيبة أيضا: عن ابن المسيب وأبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود والضحاك .

                                                وفي "المغني": قال أحمد : من ترك الوتر عمدا فهو رجل سوء ولا ينبغي أن تقبل له شهادة.

                                                وذكر في بعض شروح "الهداية": لو اجتمع أهل قرية على ترك الوتر أدبهم الإمام وحبسهم، فإن امتنعوا قاتلهم.

                                                قوله: "من حمر النعم" النعم -بفتحتين-: واحد الأنعام وهي المال الراعية، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل.

                                                قال الفراء : هو ذكر لا يؤنث، يقولون: هذا نعم وارد، ويجمع على نعمان مثل حمل وحملان، والأنعام يذكر ويؤنث.

                                                "والحمر" بضم الحاء وسكون الميم: جمع أحمر، ولما كانت الإبل الحمر أعز الأموال عند العرب ذكر ذلك - عليه السلام -.

                                                قوله: "ما بين صلاة العشاء" خبر مبتدأ محذوف، أي: هي ما بين صلاة

                                                [ ص: 430 ] العشاء، وأراد: وقتها ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر، وعن هذا قال أصحابنا: لو صلى الوتر قبل صلاة العشاء لا يجوز وعليه أن يعيده بعد أن يصلي العشاء.

                                                وفي "المغني" لابن قدامة: فلو أوتر قبل العشاء لم يصح وتره.

                                                وقال الثوري وأبو حنيفة : إن صلاه قبل العشاء ناسيا لم يعده، وخالفاه صاحباه فقالا: يعيد، وكذلك قال مالك والشافعي .

                                                وفي بعض شروح البخاري : اختلف الناس في أول وقت الوتر، فالصحيح المشهور أنه يدخل بفراغه من فريضة العشاء، سواء صلى بينه وبين العشاء نافلة أم لا، وسواء أوتر بركعة أو بأكثر، فإن أوتر قبل فعل العشاء لم يصح وتره.

                                                قال النووي في "شرح المهذب": سواء تعمده أو سها.

                                                الثاني: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء.

                                                قال إمام الحرمين وغيره وقطع به أبو الطيب، وله أن يصليه قبلها، قالوا: سواء تعمده أم سها.

                                                الثالث: أنه إن أوتر بأكثر من ركعة دخل وقته بفعل العشاء وإن أوتر بركعة فشرط صحتها أن يتقدمها نافلة بعد فريضة العشاء، فإن أوتر بركعة قبل أن يتقدمها نفل لم يصح وتره.

                                                قال إمام الحرمين: ويكون تطوعا.

                                                [ ص: 431 ] وقال أصحابنا: أول وقته عندهما بعد العشاء، وعند الإمام إذا غاب الشفق.

                                                وفي "مختصر الطحاوي ": وقته وقت العشاء فمن صلاه في أول الوقت أو آخره يكون مؤديا لا قاضيا.

                                                وأما آخر وقته: فذكر ابن المنذر إجماع أهل العلم على أن ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر وقت للوتر.

                                                وزعم ابن التين أن أول وقته انقضاء صلاة العشاء، فإن ذكر الوتر وهو في صلاة الصبح فهل يقطعها؟

                                                فقيل: يقطع مطلقا سواء كان إماما أو مأموما أو فذا، وقيل: لا يقطع مطلقا، وقيل: يقطع الإمام والفذ، وقيل: يقطع الفذ خاصة، وقيل: إن تذكر قبل أن يعقد ركعة قطع وإلا فلا.

                                                قوله: "الوتر الوتر" مرفوع ; لأنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هي الوتر، ويجوز الجر على أنه بدلا من قوله: "بصلاة" وكرر "الوتر" للتأكيد، فافهم.

                                                وأما حديث أبي نضرة : فأخرجه عن علي بن شيبة بن الصلت السدوسي ، عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري ، عن عبد الله بن لهيعة، فهو وإن كان فيه مقال ولكنه ثقة عند أحمد والطحاوي ، عن أبي تميم عبد الله بن مالك الجيشاني الرعيني المصري، روى له الجماعة سوى البخاري ، أبو داود في "القدر".

                                                والجيشاني -بفتح الجيم وسكون الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- نسبة إلى جيشان بن عيدان بن حجر بن ذي رعين، عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -، عن أبي بصرة -بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة- واسمه حميل بن بصرة -بضم الحاء المهملة وفتح الميم- وهو الصواب، وقيل: جميل -بفتح الجيم وكسر الميم- وقال الترمذي : لا يصح.

                                                [ ص: 432 ] وأخرجه الطبراني في "الكبير": ثنا المقدام بن داود، ثنا أسد بن موسى، نا ابن لهيعة ، أن أبا تميم الجيشاني عبد الله بن مالك أخبره، أنه سمع عمرو بن العاص يقول: أخبرني رجل من أصحاب رسول الله - عليه السلام -، أنه سمع رسول الله - عليه السلام - يقول: "إن الله -عز وجل- قد زادكم صلاة فصلوها فيما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح، الوتر الوتر. . . " إلى آخره نحو رواية الطحاوي سواء.

                                                قوله: "زادكم صلاة" يدل على وجوب الوتر ; لأن الزيادة والإمداد يكونان من جنس اللاحق به كما قلنا فيما مضى: إنه يقال: أمد السلطان الجيش إذا زادهم من جيشهم.

                                                قوله: "الوتر، الوتر" بالتكرار للتأكيد، يجوز فيه الرفع والنصب كما ذكرنا أن الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وأن النصب على أنه بدل من قوله "صلاة".

                                                قوله: "ألا وإنه" كلمة "ألا" للتنبيه، كأنه ينبه السامع على ما يأتي ليكون على أهبة من تحفظه، والضمير في "وأنه" يرجع إلى الرجل في قوله: "أخبرني رجل من أصحاب النبي - عليه السلام -".

                                                واعلم أن الترمذي لما أخرج حديث خارجة بن حذافة في الوتر قال: وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو ، وبريدة وأبي بصرة الغفاري .

                                                قلت: وفي الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر ومعاذ بن جبل وأبي برزة الأسلمي وعلي بن أبي طالب وأبي أيوب الأنصاري ، وسليمان بن ورد وعقبة بن عامر وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنهم -.

                                                [ ص: 433 ] أما حديث أبي هريرة : فأخرجه أحمد في ["مسنده" ] بسند جيد: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "من لم يوتر فليس منا".

                                                وأما حديث عبد الله بن عمرو : فأخرجه أحمد أيضا في "مسنده": من رواية المثنى بن الصباح وفيه ضعف، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الله تعالى زادكم صلاة فحافظوا عليها وهي الوتر". فكان عمرو بن شعيب يرى أن يعاد الوتر ولو بعد شهر.

                                                وأما حديث أبي بريدة : فأخرجه أبو داود : ثنا محمد بن المثنى، نا أبو إسحاق الطالقاني، نا الفضل بن موسى ، عن عبيد الله بن عبد الله العتكي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه، قال: سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا، الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا".

                                                وأخرجه الحاكم في "مستدركه": وقال: هذا حديث صحيح.

                                                فإن قيل: كيف يكون صحيحا وفي إسناده أبو المنيب عبيد الله بن عبد الله وقد تكلم فيه البخاري وغيره؟!

                                                قلت: قال الحاكم : هو ثقة. وكذا قال ابن معين، وقال أبو حاتم : هو صالح الحديث، وأنكر على البخاري إدخاله في الضعفاء.

                                                وأخرج أبو بكر الرازي هذا الحديث، ولفظه: "الوتر حق واجب".

                                                قوله: "حق" أي: واجب ثابت، والدليل على هذا المعنى قوله: "فمن لم يوتر [ ص: 434 ] فليس منا" وهذا وعيد شديد، ولا يقال مثل هذا إلا في حق تارك فرض أو واجب ولا سيما وقد تأكد ذلك بالتكرار ثلاث مرات، ومثل هذا الكلام بهذه التأكيدات لم يأت في حق السنن.

                                                وأما حديث ابن عباس : فأخرجه الدارقطني بإسناده عنه: "أن النبي - عليه السلام - خرج عليهم يرى البشر أو السرور في وجهه، فقال: إن الله قد أمدكم بصلاة وهي الوتر"، وقد ذكرناه عن قريب.

                                                وأما حديث عائشة - رضي الله عنها -: فأخرجه أبو زيد الدبوسي في كتاب "الأسرار" أنها قالت: قال النبي - عليه السلام -: "أوتروا يا أهل القرآن، فمن لم يوتر فليس منا".

                                                وأما حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: فأخرجه الحاكم في "مستدركه"

                                                بإسناده إلى أبي سعيد ، قال: قال رسول الله: "من نام عن وتره أو نسيه فليصله إذا أصبح أو ذكره".

                                                قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ونقل تصحيحه ابن الحصار أيضا عن شيخه.

                                                وأخرجه الترمذي أيضا.

                                                وأما حديث عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: فأخرجه ابن ماجه : من حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام - أنه قال: "إن الله وتر يحب الوتر فأوتروا يا أهل القرآن. فقال أعرابي: ما تقول؟ فقال: ليس لك ولا لأصحابك".

                                                [ ص: 435 ] وأخرجه أبو داود أيضا.

                                                وأما حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: فأخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي : أن النبي - عليه السلام - قال: "اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا".

                                                فقد أمر بجعل الوتر، والأمر للوجوب.

                                                وأما حديث معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: فأخرجه أحمد في "مسنده": من رواية عبيد الله بن زحر ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي قاضي إفريقية: "أن معاذ بن جبل قدم الشام وأهل الشام لا يوترون، [فقال لمعاوية : ما لي أرى أهل الشام لا يوترون؟!] فقال معاوية : وواجب ذلك عليهم؟ قال: نعم، سمعت رسول الله - عليه السلام - يقول: زادني ربي -عز وجل- صلاة وهي الوتر فيما بين العشاء إلى طلوع الفجر".

                                                قلت: عبد الله بن زحر ضعيف جدا، ومعاوية لم يتأمر في حياة معاذ - رضي الله عنه -، فافهم.

                                                وأما حديث أي برزة: فأخرجه أبو عمر في "الاستذكار": أن رسول الله قال: "الوتر حق فمن لم يوتر فليس منا".

                                                وأما حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: فأخرجه أبو داود : ثنا إبراهيم بن موسى، أنا عيسى ، عن زكرياء ، عن أبي إسحاق ، عن عاصم ، عن علي - رضي الله عنه - [ ص: 436 ] قال: قال رسول الله - عليه السلام -: "يا أهل القرآن أوتروا، فإن الله وتر يحب الوتر".

                                                وأخرجه الترمذي وقال: حديث حسن.

                                                وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا.

                                                وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" والحاكم في "مستدركه" وصححه أيضا أبو محمد الإشبيلي، وحسنه الطوسي .

                                                فإن قيل: قال الخطابي : تخصيصه أهل القرآن بالأمر فيه يدل على أن الوتر غير واجب، ولو كان واجبا لكان عاما، وأهل القرآن في عرف الناس هم القراء والحفاظ دون العوام.

                                                قلت: أهل القرآن بحسب اللغة يتناول كل من معه شيء من القرآن ولو كان آية، فيدخل فيه الحفاظ وغيرهم، على أن القرآن كان في زمنه - عليه السلام - مفرقا بين الصحابة، وبهذا التأويل الفاسد لا يبطل مقتضى الأمر الدال على الوجوب.

                                                وأما حديث أبي أيوب الأنصاري - رضي الله عنه -: فأخرجه الدارقطني في "سننه":

                                                ثنا إسماعيل بن العباس الوراق، نا محمد بن حسان الأزرق، نا سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد ، عن أبي أيوب ، عن النبي - عليه السلام - قال: "الوتر حق واجب، فمن شاء أن يوتر بثلاث فليوتر، ومن شاء أن يوتر بواحدة فليوتر بواحدة".

                                                قوله: "واجب" ليس بمحفوظ، لا أعلم تابع ابن حسان عليه أحد.

                                                [ ص: 437 ] وأما حديث سليمان بن صرد - رضي الله عنه -: فأخرجه الطبراني في "الأوسط": من رواية إسماعيل بن عمرو الحلبي ، عن الحسن بن صالح ، عن موسى بن أبي عائشة ، عن سليمان بن ورد قال: قال النبي - عليه السلام -: "استاكوا وتنظفوا وأوتروا فإن الله وتر يحب الوتر".

                                                وإسماعيل بن عمرو وثقه ابن حبان وضعفه الدارقطني وابن عدي .

                                                وأما حديثا عقبة بن عامر وعمرو بن العاص : فأخرجهما الطبراني في "الكبير" و "الأوسط" من حديث يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني ، عن عمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني ، عن رسول الله - عليه السلام - قال: "إن الله زادكم صلاة خير لكم من حمر النعم، الوتر، وهي فيما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر".

                                                وأما حديث عبد الله بن أبي أوفى : فأخرجه البيهقي في "الخلافيات": من رواية أحمد بن مصعب، ثنا الفضل بن موسى، ثنا أبو حنيفة ، عن أبي يعفور ، عن عبد الله بن أبي أوفى ، عن النبي - عليه السلام -: "إن الله زادكم صلاة وهي الوتر".




                                                الخدمات العلمية