الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى وأن إلى ربك المنتهى

قوله تعالى : أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم أي صحف إبراهيم الذي وفى كما في سورة ( الأعلى ) صحف إبراهيم وموسى أي لا تؤخذ نفس بدلا عن أخرى ، كما قال ألا تزر وازرة وزر أخرى وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر ; لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه ; قاله الهذيل بن شرحبيل . وأن هذه المخففة من الثقيلة وموضعها جر بدلا من ( ما ) أو يكون في موضع رفع على إضمار " هو " . وقرأ سعيد بن جبير وقتادة " وفى " خفيفة ومعناها صدق في قوله وعمله ، وهي راجعة إلى معنى قراءة الجماعة " وفى " بالتشديد أي قام بجميع ما فرض عليه فلم يخرم منه شيئا . وقد مضى في ( البقرة ) عند قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن والتوفية الإتمام . وقال أبو بكر الوراق : قام بشرط ما ادعى ; وذلك أن الله تعالى قال له : أسلم قال أسلمت لرب العالمين فطالبه الله بصحة دعواه ، فابتلاه في ماله وولده ونفسه فوجده وافيا بذلك ; فذلك قوله : وإبراهيم الذي وفى أي : ادعى الإسلام ثم صحح دعواه . وقيل : وفى عمله كل يوم بأربع ركعات في صدر النهار ; رواه الهيثم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم . وروى سهل بن سعد الساعدي عن أبيه ألا أخبركم لم سمى الله تعالى خليله إبراهيم الذي وفى ؛ لأنه كان يقول [ ص: 105 ] كلما أصبح وأمسى : فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون الآية . ورواه سهل بن معاذ عن أنس عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وقيل : وفى أي وفى ما أرسل به ، وهو قوله : ألا تزر وازرة وزر أخرى قال ابن عباس : كانوا قبل إبراهيم عليه السلام يأخذون الرجل بذنب غيره ، ويأخذون الولي بالولي في القتل والجراحة ; فيقتل الرجل بأبيه وابنه وأخيه وعمه وخاله وابن عمه وقريبه وزوجته وزوجها وعبده ، فبلغهم إبراهيم عليه السلام عن الله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير في قوله تعالى وفى : عمل بما أمر به وبلغ رسالات ربه . وهذا أحسن ; لأنه عام . وكذا قال مجاهد : وفى بما فرض عليه . وقال أبو مالك الغفاري قوله تعالى : ألا تزر وازرة وزر أخرى إلى قوله : فبأي آلاء ربك تتمارى في صحف إبراهيم وموسى . وقد مضى في آخر ( الأنعام ) القول في ولا تزر وازرة وزر أخرى مستوفى .

قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى روي عن ابن عباس أنها منسوخة بقوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم فيحصل الولد الطفل يوم القيامة في ميزان أبيه ، ويشفع الله تعالى الآباء في الأبناء والأبناء في الآباء ; يدل على ذلك قوله تعالى : آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا . . وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ولا ينفع أحدا عمل أحد ، وأجمعوا أن لا يصلي أحد عن أحد . ولم يجز مالك الصيام والحج والصدقة عن الميت ، إلا أنه قال : إن أوصى بالحج ومات جاز أن يحج عنه . وأجاز الشافعي وغيره الحج التطوع عن الميت . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها اعتكفت عن أخيها عبد الرحمن وأعتقت عنه . وروي أن سعد بن عبادة قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أمي توفيت أفأتصدق عنها ؟ قال : نعم ، قال : فأي الصدقة أفضل ؟ قال : سقي الماء .

وقد مضى جميع هذا مستوفى في ( البقرة ) و ( آل عمران ) و ( الأعراف ) . وقد قيل : إن الله عز وجل إنما قال : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ولام الخفض معناها في العربية الملك والإيجاب فلم يجب للإنسان إلا ما سعى ، فإذا تصدق عنه غيره فليس يجب له شيء إلا أن الله عز وجل يتفضل عليه بما لا يجب له ، كما يتفضل على الأطفال بإدخالهم الجنة بغير عمل . وقال [ ص: 106 ] الربيع بن أنس : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى يعني الكافر وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره .

قلت : وكثير من الأحاديث يدل على هذا القول ، وأن المؤمن يصل إلى ثواب العمل الصالح من غيره ، وقد تقدم كثير منها لمن تأملها ، وليس في الصدقة اختلاف ، كما في صدر كتاب مسلم عن عبد الله بن المبارك . وفي الصحيح : إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث وفيه : أو ولد صالح يدعو له وهذا كله تفضل من الله عز وجل ، كما أن زيادة الأضعاف فضل منه ، كتب لهم بالحسنة الواحدة عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى ألف ألف حسنة ; كما قيل لأبي هريرة : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألف ألف حسنة فقال سمعته يقول : إن الله ليجزي على الحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة فهذا تفضل . وطريق العدل أن ليس للإنسان إلا ما سعى .

قلت : ويحتمل أن يكون قوله : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى خاص في السيئة ; بدليل ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قال الله عز وجل إذا هم عبدي بحسنة ولم يعملها كتبتها له حسنة فإن عملها كتبتها له عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بسيئة ولم يعملها لم أكتبها عليه فإن عملها كتبتها سيئة واحدة . وقال أبو بكر الوراق : إلا ما سعى إلا ما نوى ; بيانه قوله صلى الله عليه وسلم : يبعث الناس يوم القيامة على نياتهم .

قوله تعالى : وأن سعيه سوف يرى أي يريه الله تعالى جزاءه يوم القيامة ثم يجزاه أي يجزى به الجزاء الأوفى قال الأخفش : يقال جزيته الجزاء ، وجزيته بالجزاء سواء لا فرق بينهما قال الشاعر : [ ص: 107 ]

إن أجز علقمة بن سعد سعيه لم أجزه ببلاء يوم واحد

فجمع بين اللغتين .

قوله تعالى : وأن إلى ربك المنتهى أي : المرجع والمراد والمصير ، فيعاقب ويثيب . وقيل : منه ابتداء المنة وإليه انتهاء الأمان . وعن أبي بن كعب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : وأن إلى ربك المنتهى قال : لا فكرة في الرب . وعن أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إذ ذكر الله تعالى فانته .

قلت : ومن هذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام : يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربك فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته وقد تقدم في آخر ( الأعراف ) . ولقد أحسن من قال :

ولا تفكرن في ذي العلا عز وجهه     فإنك تردى إن فعلت وتخذل
ودونك مصنوعاته فاعتبر بها     وقل مثل ما قال الخليل المبجل

التالي السابق


الخدمات العلمية