الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ( 33 ) ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ( 34 ) وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ( 35 ) وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ( 36 ) )

يقول تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) أي : دعا عباد الله إليه ، ( وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) أي : وهو في نفسه مهتد بما يقوله ، فنفعه لنفسه ولغيره لازم ومتعد ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، وينهون عن المنكر ويأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، ويدعو الخلق إلى الخالق تبارك وتعالى . وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى الناس بذلك ، كما قال محمد بن سيرين ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

وقيل : المراد بها المؤذنون الصلحاء ، كما ثبت في صحيح مسلم : " المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة " وفي السنن مرفوعا : " الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، فأرشد الله الأئمة ، وغفر للمؤذنين " .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عروبة الهروي ، حدثنا غسان قاضي هراة وقال أبو زرعة : حدثنا إبراهيم بن طهمان ، عن مطر ، عن الحسن ، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : " سهام المؤذنين عند الله يوم القيامة كسهام المجاهدين ، وهو بين الأذان والإقامة كالمتشحط في سبيل الله في دمه " .

قال : وقال ابن مسعود : " لو كنت مؤذنا ما باليت ألا أحج ولا أعتمر ولا أجاهد " .

[ ص: 180 ]

قال : وقال عمر بن الخطاب : لو كنت مؤذنا لكمل أمري ، وما باليت ألا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار ، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللهم اغفر للمؤذنين " ثلاثا ، قال : فقلت : يا رسول الله ، تركتنا ، ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف . قال : " كلا يا عمر ، إنه يأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم ، وتلك لحوم حرمها الله على النار ، لحوم المؤذنين " .

قال : وقالت عائشة : ولهم هذه الآية : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) قالت : فهو المؤذن إذا قال : " حي على الصلاة " فقد دعا إلى الله .

وهكذا قال ابن عمر ، وعكرمة : إنها نزلت في المؤذنين .

وقد ذكر البغوي عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أنه قال في قوله : ( وعمل صالحا ) قال : يعني صلاة ركعتين بين الأذان والإقامة .

ثم أورد البغوي حديث " عبد الله بن المغفل " قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " بين كل أذانين صلاة " . ثم قال في الثالثة : " لمن شاء " وقد أخرجه الجماعة في كتبهم ، من حديث عبد الله بن بريدة ، عنه وحديث الثوري ، عن زيد العمي ، عن أبي إياس معاوية بن قرة ، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال الثوري : لا أراه إلا وقد رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - : " الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة " .

ورواه أبو داود والترمذي ، والنسائي في " اليوم والليلة " كلهم من حديث الثوري ، به . وقال الترمذي : هذا حديث حسن .

ورواه النسائي أيضا من حديث سليمان التيمي ، عن قتادة ، عن أنس ، به .

والصحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعا بالكلية ; لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، حين أريه عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري في منامه ، فقصه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يلقيه على بلال فإنه أندى صوتا ، كما هو مقرر في موضعه ، فالصحيح إذا أنها عامة ، كما قال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الحسن البصري : أنه تلا هذه الآية : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) فقال : هذا حبيب الله ، هذا ولي الله ، هذا صفوة الله ، هذا خيرة الله ، هذا أحب أهل الأرض إلى الله ، أجاب الله في دعوته ، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته ، وعمل صالحا في إجابته ، وقال : [ ص: 181 ] إنني من المسلمين ، هذا خليفة الله .

وقوله : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) أي : فرق عظيم بين هذه وهذه ، ( ادفع بالتي هي أحسن ) أي : من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه ، كما قال عمر [ رضي الله عنه ] ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .

وقوله : ( فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) وهو الصديق ، أي : إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك ، والحنو عليك ، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي : قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك .

ثم قال : ( وما يلقاها إلا الذين صبروا ) أي : وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك ، فإنه يشق على النفوس ، ( وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم ) أي : ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والأخرى .

قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم الله من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم .

وقوله : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله ) أي : إن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه ، فأما شيطان الجن فإنه لا حيلة فيه إذا وسوس إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك ، فإذا استعذت بالله ولجأت إليه ، كفه عنك ورد كيده . وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قام إلى الصلاة يقول : " أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه " .

وقد قدمنا أن هذا المقام لا نظير له في القرآن إلا في " سورة الأعراف " عند قوله : ( خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) [ الأعراف : 199 ، 200 ] ، وفي سورة المؤمنين عند قوله : ( ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون ) [ المؤمنون : 96 - 98 ] .

[ لكن الذي ذكر في الأعراف أخف على النفس مما ذكر في سورة السجدة ; لأن الإعراض عن الجاهل وتركه أخف على النفس من الإحسان إلى المسيء فتتلذذ النفس من ذلك ولا انتقاد له إلا بمعالجة ويساعدها الشيطان في هذه الحال ، فتنفعل له وتستعصي على صاحبها ، فتحتاج إلى مجاهدة وقوة إيمان ; فلهذا أكد ذلك هاهنا بضمير الفصل والتعريف باللام فقال : ( فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم ) ] .



التالي السابق


الخدمات العلمية