الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                385 حدثني إسحق بن منصور أخبرنا أبو جعفر محمد بن جهضم الثقفي حدثنا إسمعيل بن جعفر عن عمارة بن غزية عن خبيب بن عبد الرحمن بن إساف عن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب عن أبيه عن جده عمر بن الخطاب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله قال أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال أشهد أن محمدا رسول الله قال أشهد أن محمدا رسول الله ثم قال حي على الصلاة قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر الله أكبر قال الله أكبر الله أكبر ثم قال لا إله إلا الله قال لا إله إلا الله من قلبه دخل الجنة

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                قوله - صلى الله عليه وسلم - : ( إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ثم قال : أشهد أن محمدا رسول الله ، ثم قال : حي على الصلاة ) إلى آخره معناه قال كل نوع من هذا مثنى كما هو المشروع ، فاختصر - صلى الله عليه وسلم - من كل نوع شطره تنبيها على باقية ، ومعنى ( حي على كذا ) أي تعالوا إليه ، والفلاح الفوز والنجاة وإصابة الخير . قالوا : وليس في كلام العرب كلمة أجمع للخير من لفظة ( الفلاح ) ، ويقرب منها النصيحة ، وقد سبق بيان هذا في حديث الدين النصيحة فمعنى حي على الفلاح أي تعالوا إلى سبب الفوز والبقاء في الجنة والخلود في النعيم . والفلاح والفلح تطلقهما العرب أيضا على البقاء .

                                                                                                                وقوله : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) يجوز فيه خمسة أوجه لأهل العربية مشهورة أحدها لا حول ولا قوة بفتحهما بلا تنوين ، والثاني فتح الأول ونصب الثاني منونا ، والثالث رفعهما منونين ، والرابع فتح الأول ورفع الثاني منونا ، والخامس عكسه .

                                                                                                                قال الهروي : قال أبو الهيثم : ( الحول ) الحركة أي لا حركة ولا استطاعة إلا بمشيئة الله . وكذا قال ثعلب وآخرون ، وقيل : لا حول في دفع شر ولا قوة في تحصيل خير إلا بالله ، وقيل : لا حول عن معصية الله إلا بعصمته ، ولا قوة على طاعته إلا بمعونته ، وحكي هذا عن ابن مسعود - رضي الله عنه - ، وحكى الجوهري لغة غريبة ضعيفة أنه يقال : لا حيل ولا قوة إلا بالله بالياء قال : والحيل والحول بمعنى ، ويقال في التعبير عن قولهم : لا حول ولا قوة إلا بالله ( الحوقلة ) ، هكذا قاله الأزهري والأكثرون ، وقال الجوهري : ( الحولقة ) فعلى الأول وهو المشهور الحاء والواو من الحول والقاف من القوة واللام من اسم الله تعالى ، وعلى الثاني الحاء واللام من الحول والقاف القوة والأول أولى لئلا يفصل بين الحروف . ومثل الحوقلة الحيعلة في حي على الصلاة حي على الفلاح حي على كذا ، والبسملة في بسم الله ، الحمدلة في الحمد لله ، والهيللة في لا إله إلا الله ، والسبحلة في سبحان الله .

                                                                                                                أما أحكام الباب ففيه استحباب قول سامع المؤذن مثل ما يقول إلا في الحيعلتين فإنه يقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .

                                                                                                                وقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي سعيد : إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن عام مخصوص لحديث عمر أنه يقول في الحيعلتين : لا حول ولا قوة إلا بالله . وفيه استحباب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد فراغه من متابعة المؤذن ، واستحباب سؤال الوسيلة له . وفيه أنه يستحب أن يقول السامع كل كلمة بعد فراغ المؤذن منها ولا ينتظر فراغه من كل الأذان . وفيه أنه يستحب أن يقول بعد قوله : وأنا أشهد أن محمدا رسول الله ، رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا .

                                                                                                                وفيه أنه يستحب لمن رغب غيره في خير أن يذكر له شيئا من دلالته لينشطه لقوله - صلى الله عليه وسلم - : فإنه من صلى علي مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة وفيه أن الأعمال يشترط لها القصد والإخلاص لقوله - صلى الله عليه وسلم - : من قلبه واعلم أنه يستحب إجابة المؤذن بالقول مثل قوله لكل من سمعه من متطهر ومحدث وجنب وحائض وغيرهم ممن لا مانع له من الإجابة فمن أسباب المنع أن يكون في الخلاء ، أو جماع أهله ، أو نحوهما .

                                                                                                                ومنها أن يكون في صلاة فمن كان في صلاة فريضة أو نافلة فسمع المؤذن لم يوافقه وهو في الصلاة ، فإذا سلم أتى بمثله . فلو فعله في الصلاة فهل يكره؟ فيه قولان للشافعي - رضي الله عنه - : أظهرهما أنه يكره لأنه إعراض عن الصلاة لكن لا تبطل صلاته إن قال ما ذكرناه لأنها أذكار فلو قال حي على الصلاة أو الصلاة خير من النوم بطلت صلاته إن كان [ ص: 69 ] عالما بتحريمه لأنه كلام آدمي . ولو سمع الأذان وهو في قراءة أو تسبيح أو نحوهما قطع ما هو فيه وأتى بمتابعة المؤذن . ويتابعه في الإقامة كالأذان إلا أنه يقول في لفظ الإقامة : أقامها الله ، وأدامها ، وإذا ثوب المؤذن في صلاة الصبح فقال : الصلاة خير من النوم قال سامعه : صدقت ، وبررت . هذا تفصيل مذهبنا .

                                                                                                                وقال القاضي عياض - رحمه الله - : اختلف أصحابنا هل يحكي المصلي لفظ المؤذن في صلاة الفريضة والنافلة . أم لا يحكيه فيهما ، أم يحكيه في النافلة دون الفريضة؟ على ثلاثة أقوال ومنعه أبو حنيفة فيهما . وهل هذا القول مثل قول المؤذن واجب على من سمعه في غير الصلاة أم مندوب؟ فيه خلاف حكاه الطحاوي ، الصحيح الذي عليه الجمهور أنه مندوب . قال : واختلفوا هل يقوله عند سماع كل مؤذن أم لأول مؤذن فقط قال : واختلف قول مالك هل يتابع المؤذن في كل كلمات الأذان أم إلى آخر الشهادتين لأنه ذكر ، وما بعده بعضه ليس بذكر ، وبعضه تكرار لما سبق . والله أعلم .

                                                                                                                " فصل " قال القاضي عياض - رحمه الله - : قوله - صلى الله عليه وسلم - : إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم الله أكبر الله أكبر إلى آخره ثم قال في آخره من قلبه دخل الجنة إنما كان كذلك لأن ذلك توحيد ، وثناء على الله تعالى ، وانقياد لطاعته ، وتفويض إليه لقوله لا حول ولا قوة إلا بالله فمن حصل هذا فقد حاز حقيقة الإيمان وكمال الإسلام ، واستحق الجنة بفضل الله تعالى ، وهذا معنى قوله في الرواية الأخرى رضيت بالله ربا ، وبمحمد رسولا ، وبالإسلام دينا

                                                                                                                قال : واعلم أن الأذان كلمة جامعة لعقيدة الإيمان مشتملة على نوعيه من العقليات والسمعيات ، فأوله إثبات الذات ، وما يستحقه من الكمال والتنزيه عن أضدادها وذلك بقوله : ( الله أكبر ) ، وهذه اللفظة مع اختصار لفظها دالة على ما ذكرناه ، ثم صرح بإثبات الوحدانية ونفي ضدها من الشركة المستحيلة في حقه سبحانه وتعالى ، وهذه عمدة الإيمان والتوحيد المقدمة على كل وظائف الدين ، ثم صرح بإثبات النبوة والشهادة بالرسالة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - وهي قاعدة عظيمة بعد الشهادة بالوحدانية ، وموضعها بعد التوحيد ؛ لأنها من باب الأفعال الجائزة الوقوع ، وتلك المقدمات من باب الواجبات ، وبعد هذه القواعد كملت العقائد العقليات فيما يجب ويستحيل ويجوز في حقه سبحانه وتعالى ، ثم دعا إلى ما دعاهم إليه من العبادات فدعاهم إلى الصلاة وعقبها بعد إثبات النبوة لأن معرفة وجوبها من جهة النبي - صلى الله عليه وسلم - لا من جهة العقل ، ثم دعا إلى الفلاح وهو الفوز والبقاء في النعيم المقيم ، وفيه إشعار بأمور الآخرة من البعث والجزاء ، وهي آخر تراجم عقائد الإسلام ، ثم كرر ذلك بإقامة الصلاة للإعلام بالشروع فيها ، وهو متضمن لتأكيد الإيمان وتكرار ذكره عند الشروع في العبادة بالقلب واللسان ، وليدخل المصلي فيها على بينة من أمره وبصيرة من إيمانه ، ويستشعر عظيم ما دخل فيه وعظمة حق من يعبده ، وجزيل ثوابه . هذا آخر كلام القاضي وهو من النفائس الجليلة . وبالله التوفيق .




                                                                                                                الخدمات العلمية