الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
1361 - وعن أوس بن أوس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا علي من الصلاة فيه ، فإن صلاتكم معروضة علي " ، قالوا : يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ قال : يقولون بليت ، قال : " إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء " . رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي ، والبيهقي في " الدعوات الكبير " .

التالي السابق


1361 - ( وعن أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن أفضل أيامكم يوم الجمعة ) : وفيه إشارة إلى أن يوم عرفة أفضل أو مساو ( فيه خلق آدم ) ، أي طينته كما سبق ، ( وفيه ) ، أي في جنسه ( قبض ) ، أي روحه ( وفيه النفخة ) ، أي النفخة الثانية التي توصل الأبرار إلى النعم الباقية ، قال الطيبي : وتبعه ابن حجر ، أي النفخة الأولى فإنها مبدأ قيام الساعة ومقدم النشأة الثانية ، ولا منع من الجمع ( وفيه الصعقة ) ، أي الصيحة كما في نسخة ، والمراد بها الصوت الهائل الذي يموت الإنسان من هوله ، وهي النفخة الأولى ، قال تعالى : ( ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ) ، فالتكرار باعتبار تغاير الوصفين والأولى ما اخترناه من التغاير الحقيقي ، وإنما سميت النفخة الأولى بالصعقة ; لأنها تترتب عليها ، وبهذا الوصف تتميز عن الثانية ، وقيل : إشارة إلى صعقة موسى - عليه السلام - وهي ما حصل له من التجلي الإلهي الذي عجز عنه الجبل القوي ، فصار دكا وخر موسى صعقا ، أي : مغشيا عليه ، فلما أفاق قال : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) ( فأكثروا علي من الصلاة فيه ) ، أي : في يوم الجمعة ، فإن الصلاة من أفضل العبادات ، وهي فيها أفضل من غيرها لاختصاصها بتضاعف الحسنات إلى سبعين على سائر الأوقات ، ولكون إشغال الوقت الأفضل بالعمل الأفضل هو الأكمل والأجمل ، ولكونه سيد الأيام فيصرف في خدمة سيد الأنام - عليه الصلاة والسلام - ثم إذا عرفتم أنه من أفضل أيامكم . ( فإن صلاتكم معروضة علي ) : يعني على وجه القبول فيه ، وإلا فهي دائما تعرض عليه بواسطة الملائكة إلا عند روضته ، فيسمعها بحضرته ، وقد جاء أحاديث كثيرة في فضل الصلاة يوم الجمعة وليلها ، وفضيلة الإكثار منها على سيد الأبرار ، والألف أكثر ما ورد من المقدار ، فاجعله وردك من الأذكار .

( قالوا : يا رسول الله ! وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ ) : جملة حالية بفتح الراء وسكون الميم وفتح التاء المخففة ، ويروى بكسر الراء ، أي بليت ، وقيل : على البناء للمفعول من الأرم وهو الأكل ، أي : صرت مأكولا للأرض ، وقيل : أرمت بالميم المشددة والتاء الساكنة ، أي : أرمت العظام وصارت رميما كذا قاله التوربشتي ، قال الطيبي : ويروى أرممت بالميمين ، أي صرت رميما . قيل : فعلى هذا يجوز أن يكون أرمت بحذف إحدى الميمين كظلت ، ثم كسرت الراء لالتقاء الساكنين يعني : أو فتحت بالأخفية أو بالنقلية على ما عرف في محله ، قال الخطابي : أصله أرممت فحذفوا إحدى الميمين ، وهي لغة بعض العرب ، وقال غيره : هو أرمت بفتح الراء ، والميم المشددة ، وإسكان التاء ، أي : أرمت العظام ، وقيل : فيه أقوال أخر كذا في كتاب الأذكار للإمام النووي نقله السيد جمال الدين .

[ ص: 1017 ] ( قال ) ، أي : أوس الراوي ( يقولون ) ، أي : الصحابة ، أي يريدون بهذا القول ( بليت ) : ويؤيده ما وقع في المصابيح بلفظ ( يقول : بليت ) فلا يعرج على قول الطيبي على ما ورد في المصابيح ، وهو قوله : أرمت ، يقول : بليت ، وأما في المشكاة فلفظ الحديث هكذا قال : يقولون : بليت ، فهو ظاهر ; لأن القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قاله استبعادا ، تأمل . ذكره السيد جمال الدين ، ووجه التأمل أنه يعكر عليه الغيبة في يقولون ، وتكرار قال ، وينافيه ما في المصابيح ، وقد أرمت يقول : قال التوربشتي ، أي قال الراوي : بليت من أرم المال والناس ، أي : فنوا ، وأرض أرمة لا تنبت شيئا فمعنى ما في المشكاة قال الراوي : يقولون ، أي يعنون بأرمت بليت ، أي : معناه ، وهذا ظاهر لا غبار عليه كما لا يخفى ، وهذه الجملة معترضة لبيان مشكل الحديث بين السؤال والجواب أعني . ( قال ) ، أي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله حرم على الأرض ) ، أي : منعها وفيه مبالغة لطيفة ( أجساد الأنبياء ) ، أي : من أن تأكلها ، فإن الأنبياء في قبورهم أحياء .

قال الطيبي : فإن قلت : ما وجه الجواب بقوله : إن الله حرم على الأرض أجساد الأنبياء ، فإن المانع من العرض والسماع هو الموت وهو قائم ؟ قلت : لا شك أن حفظ أجسادهم من أن ترم خرق للعادة المستمرة ، فكما أن الله تعالى يحفظها ، فكذلك يمكن من العرض عليهم ، ومن الاستماع منهم صلوات الأمة ، ويؤيده ما سيرد في الحديث الثالث من الفصل الثالث ، فنبي الله حي يرزق اهـ .

قال السيد جمال الدين : لا حاجة في وجه مطابقة الجواب إلى هذا التطويل ، فإن قوله : إن الله حرم . . . إلخ . مقابل قوله : فقد أرمت ، وأيضا فمحصل الجواب أن الأنبياء أحياء في قبورهم ، فيمكن لهم سماع صلاة من صلى عليهم ، تأمل . تم كلامه ، فتأمل في كلامه فإن الذي ذكره أنه محصل الجواب هو خلاصة ما ذكره الطيبي من السؤال ، والجواب غايته أنه على وجه التوضيح والإطناب ، وأما قوله : فإن قوله : إن الله حرم ، مقابل قوله : وقد أرمت كلام حسن لا يحتاج إلى بيان ، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا بيان كيفية العرض بعد اعتقاد جواز أن العرض كائن لا محالة لقول الصادق : " فإن صلاتكم معروضة علي " لكن حصل لهم الاشتباه أن العرض هل هو على الروح المجرد أو على المتصل بالجسد ؟ وحسبوا أن جسد النبي كجسد كل أحد ، فكفى في الجواب ما قاله على وجه الصواب ، وأما على ما قدمه الطيبي فإنما يفيد حصر العرض ، والسماع بعد الموت بالأنبياء ، وليس الأمر كذلك ، فإن سائر الأموات أيضا يسمعون السلام والكلام ، وتعرض عليهم أعمال أقاربهم في بعض الأيام ، نعم إن الأنبياء تكون حياتهم على الوجه الأكمل ، ويحصل لبعض وراثهم من الشهداء والأولياء والعلماء الحظ الأوفى بحفظ أبدانهم الظاهرة ، بل بالتلذذ بالصلاة والقراءة ونحوهما في قبورهم الطاهرة إلى قيام الساعة الآخرة ، وهذه المسائل كلها ذكرها السيوطي في كتاب شرح الصدور في أحوال القبور ، بالأخبار الصحيحة ، والآثار الصريحة ، قال ابن حجر : وما أفاده من ثبوت حياة الأنبياء حياة بها يتعبدون ، ويصلون في قبورهم ، مع استغنائهم عن الطعام والشراب كالملائكة أمر لا مرية فيه ، وقد صنف البيهقي جزءا في ذلك . ( رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارمي ) : قال ميرك : ورواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم وصححه ، وزاد ابن حجر بقوله وقال : صحيح على شرط البخاري ، ورواه ابن خزيمة في صحيحه . ( والبيهقي في الدعوات الكبير ) : قال النووي : إسناده صحيح ، وقال المنذري : له علة دقيقة أشار إليها البخاري نقله ميرك ، قال ابن دحية إنه صحيح بنقل العدل عن العدل ، ومن قال : إنه منكر أو غريب لعلة خفية به ، فقد استروح ; لأن الدارقطني ردها .




الخدمات العلمية