الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 1255 ] باب زيارة القبور

الفصل الأول

1762 - عن بريدة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم ، ونهيتكم عن النبيذ إلا في سقاء فاشربوا في الأسقية كلها ، ولا تشربوا مسكرا " . رواه مسلم .

التالي السابق


( باب زيارة القبور )

أي : جوازها وفضلها وآدابها .

( الفصل الأول )

1762 - ( عن بريدة ) أي ابن الحصيب الأسلمي ، أسلم قبل بدر ، ولم يشهدها ، بايع بيعة الرضوان ، ومات بمرو غازيا ، من يزيد بن معاوية ذكره الطيبي ( قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهيتكم ) أي قبل هذا ، وأما ما وقع في أصل ابن حجر بلفظ : " كنت نهيتكم " فليس من أصل المشكاة ، وإنما هو في بعض الروايات لغير مسلم كما سنذكره ( عن زيارة القبور فزوروها ) الأمر للرخصة أو للاستحباب ، وعليه الجمهور ، بل ادعى بعضهم الإجماع ، بل حكى ابن عبد البر عن بعضهم وجوبها ، قال في شرح السنة : الإذن في زيارة القبور للرجال خاصة عند عامة أهل العلم ، وأما النساء قد روى أبو هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن زوارات القبور ، رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص في زيارة القبور ، فلما رخص عمت الرخصة لهن فيه ، أقول هذا المبحث موقوف على التاريخ ، وإلا فظاهر هذا الحديث العموم لأن الخطاب في " نهيتكم " كما أنه عام للرجال والنساء على وجه التغليب ، أو أصالة الرجال ، فكذلك الحكم في " فزوروها " ، مع أن ما قيل من أن الرخصة عامة لهن ، واللعن قبل الرخصة مبني على الاحتمال أيضا ، وقيل يكره لهن الزيارة لقلة صبرهن وجزعهن اهـ قال ابن الملك : وأما اتباع الجنازة فلا رخصة لهن فيه ، وقال ميرك : هذا من الأحاديث التي جمع الناسخ والمنسوخ ، وهو صريح في نسخ الرجال عن زياراتها ، قال النووي : وأجمعوا على أن زيارتها سنة لهم ، وهل تكره للنساء ؟ وجهان : قطع الأكثرون بالكراهة ، ومنهم من قال : لا يكره إذا أمنت الفتنة ، وينبغي للزائر أن يدنو من القبر بقدر ما كان يدنو من صاحبه في الحياة ، لو زاره ، وقال الطيبي : الفاء متعلق بمحذوف ، أي نهيتكم عن زيارة القبور ، فإن المباهاة بتكثير الأموات فعل الجاهلية ، وأما الآن فقد دار رحى الإسلام ، وهدم قواعد زيارة الشرك ، فزوروها فإنها تورث رقة القلب ، وتذكر الموت والبلى ، وغير ذلك من الفوائد ، وعلى هذا النسق الفاءان في فأمسكوا وفاشربوا اهـ ومما يؤيده حديث ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروا القبور فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ) رواه ابن ماجه عن ابن مسعود ، وروى الحاكم بسند صحيح عن أنس : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هجرا ، وفي لفظ له : نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإنها تذكركم الموت ، وروى الطبراني عن أم سلمة بسند حسن ولفظه : نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها فإن لكم فيها عبرة . فهذه الأحاديث بتعليلاتها تدل على أن النساء كالرجال في حكم الزيارة ، إذا زرن بالشروط المعتبرة في حقهن ، ويؤيد الخبر السابق أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بالمرأة فأمرها بالصبر ولم ينهها عن الزيارة ، وأما خبر : لعن الله زوارات القبور فمحمول على زيارتهن لمحرم كالنوح وغيره مما اعتدنه ، وفي قوله - صلى الله عليه وسلم - فإنها تدمع العين في الحديث السابق دليل ( ونهيتكم ) أي أول الأمر ( عن لحوم الأضاحي ) بتشديد الياء وتخفف أي عن ادخارها وإمساكها ، وكان النهي لأجل الفقراء المحتاجين ، وقد وقع قحط بالبادية فدخل أهلها المدينة ( فوق ثلاث ) أي ليال ، وقال ابن حجر : أي من الأيام ، ولعله توهم أن الرواية بالتاء ، والحال أن الأمر ليس كذلك ( فأمسكوا ) أي لحومها مطلقا ، فالأمر للرخصة ، وهو الظاهر من إطلاق الحديث ، أو المراد : أمسكوا لحومها الباقية بعد إعطاء ثلثها الفقراء ، وإهداء ثلثها الأغنياء ، استحبابا ، وقال ابن حجر : أي لحومها الباقي بعد ما يجب التصدق به منها ، وهو قدر له موقع لا تافه جدا ، وهذا يحتاج إلى دليل خارجي ( ما بدا ) بالألف أي ظهر ( لكم ) أي مدة بدو الإمساك ، قال الطيبي : نهاهم أن يأكلوا ما بقي من لحوم أضاحيهم فوق ثلاث ليال ، وأوجب عليهم التصدق به ، فرخص لهم الإمساك ما شاءوا ( ونهيتكم عن النبيذ ) أي عن إلقاء التمر والزبيب وغيرهما من الحلاوى في الماء ( إلا في سقاء ) أي قربة ، فإنه جلد رقيق لا يجعل الماء حارا ، فلا يصير مسكرا عن قريب ، بخلاف سائر الظروف ، فإنها تجعل الماء حارا فيصير النبيذ مسكرا ، فرخص لهم شرب النبيذ من كل ظرف ، ما لم يصر مسكرا فقال ( فاشربوا في الأسقية ) أي الظروف والأواني ( كلها ) فيه تغليب لما عرف من تعريف السقاء ( ولا تشربوا مسكرا ) ، قال الطيبي : وذلك أن السقاء يبرد الماء فلا يشتد ما يقع فيه اشتداد ما في الظروف والأواني ، فيصير خمرا ، والحاصل أن المنهي هو المسكر لا الظروف بعينها ( رواه مسلم ) . قال ميرك : ورواه الترمذي مطلقا ، وقال : حسن صحيح .

[ ص: 1256 ]



الخدمات العلمية