الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 5 ] الحديث الثالث والعشرون عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله ، والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه ، فمعتقها أو موبقها رواه مسلم .

التالي السابق


هذا الحديث أخرجه مسلم من رواية يحيى بن أبي كثير أن زيد بن سلام حدثه أن سلاما حدثه عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، فذكر الحديث . وفي أكثر نسخ صحيح مسلم " والصبر ضياء " وفي بعضها : " والصيام ضياء " . وقد اختلف في سماع يحيى بن أبي كثير من زيد بن سلام ، فأنكره يحيى بن معين ، وأثبته الإمام أحمد ، وفي هذه الرواية التصريح بسماعه منه . وخرج هذا الحديث النسائي ، وابن ماجه من رواية معاوية بن سلام ، عن أخيه زيد بن سلام ، عن جده أبي سلام ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن أبي [ ص: 6 ] مالك ، فزاد في إسناده عبد الرحمن بن غنم ، ورجح هذه الرواية بعض الحفاظ ، وقال : معاوية بن سلام أعلم بحديث أخيه زيد من يحيى بن أبي كثير ، ويقوي ذلك أنه قد روي عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك من وجه آخر ، وحينئذ فتكون رواية مسلم منقطعة . وفي حديث معاوية بعض المخالفة لحديث يحيى بن أبي كثير ، فإن لفظ حديثه عند ابن ماجه : إسباغ الوضوء شطر الإيمان ، والحمد لله ملء الميزان ، والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض ، والصلاة نور ، والزكاة برهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمعتقها ، أو موبقها " . وخرج الترمذي حديث يحيى بن أبي كثير الذي خرجه مسلم ، ولفظ حديثه : " الوضوء شطر الإيمان " وباقي حديثه مثل سياق مسلم . وخرج الإمام أحمد والترمذي من حديث رجل من بني سليم ، قال : عدهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يدي أو في يده : " التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم نصف الصبر ، والطهور نصف الإيمان " . [ ص: 7 ] فقوله صلى الله عليه وسلم : " الطهور شطر الإيمان " فسر بعضهم الطهور هاهنا بترك الذنوب ، كما في قوله تعالى : إنهم أناس يتطهرون [ الأعراف : 82 ] ، وقوله : وثيابك فطهر [ المدثر : 4 ] ، وقوله : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين [ البقرة : 222 ] . وقال الإيمان نوعان : فعل وترك ، فنصفه فعل المأمورات ، ونصفه ترك المحظورات ، وهو تطهير النفس بترك المعاصي ، وهذا القول محتمل لولا أن رواية " الوضوء شطر الإيمان " ترده ، وكذلك رواية إسباغ الوضوء . وأيضا ففيه نظر من جهة المعنى ، فإن كثيرا من الأعمال تطهر النفس من الذنوب السابقة ، كالصلاة ، فكيف لا تدخل في اسم الطهور ، ومتى دخلت الأعمال ، أو بعضها ، في اسم الطهور ، لم يتحقق كون ترك الذنوب شطر الإيمان . والصحيح الذي عليه الأكثرون : أن المراد بالطهور هاهنا : التطهير بالماء من الإحداث ، وكذلك بدأ مسلم بتخريجه في أبواب الوضوء ، وكذلك خرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما ، وعلى هذا فاختلف الناس في معنى كون الطهور بالماء شطر الإيمان . فمنهم من قال : المراد بالشطر الجزء ، لا أنه النصف بعينه ، فيكون الطهور جزءا من الإيمان ، وهذا فيه ضعف ، لأن الشطر إنما يعرف استعماله لغة في النصف ، ولأن في حديث الرجل من سليم : " الطهور نصف الإيمان " كما سبق . ومنهم من قال : المعنى أنه يضاعف ثواب الوضوء إلى نصف ثواب الإيمان ، لكن من غير تضعيف ، وفي هذا نظر وبعد . [ ص: 8 ] ومنهم من قال : الإيمان يكفر الكبائر كلها ، والوضوء يكفر الصغائر ، فهو شطر الإيمان بهذا الاعتبار ، وهذا يرده حديث : " من أساء في الإسلام أخذ بما عمل في الجاهلية " وقد سبق ذكره . منهم من قال : الوضوء يكفر الذنوب مع الإيمان ، فصار نصف الإيمان ، وهذا ضعيف . ومنهم من قال : المراد بالإيمان هاهنا : الصلاة ، كما في قوله عز وجل : وما كان الله ليضيع إيمانكم [ البقرة : 143 ] ، والمراد صلاتكم إلى بيت المقدس ، فإذا كان المراد بالإيمان الصلاة ، فالصلاة لا تقبل إلا بطهور ، فصار الطهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار ، حكى هذا التفسير محمد بن نصر [ ص: 9 ] المروزي في " كتاب الصلاة " عن إسحاق بن راهويه عن يحيى بن آدم ، وأنه قال في معنى قولهم " لا أدري " نصف العلم : إن العلم إنما هو " أدري ولا أدري " ، فأحدهما نصف الآخر . قلت : كل شيء كان تحته نوعان : فأحدهما نصف له ، وسواء كان عدد النوعين على السواء ، أو أحدهما أزيد من الآخر ، ويدل على هذا حديث " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " والمراد : قراءة الصلاة ، ولهذا فسرها بالفاتحة ، والمراد أنها مقسومة للعبادة والمسألة ، فالعبادة حق الرب والمسألة حق العبد ، وليس المراد قسمة كلماتها على السواء . وقد ذكر هذا الخطابي ، واستشهد بقول العرب : نصف السنة سفر ، ونصفها حضر ، قال : وليس على تساوي الزمانين فيهما ، لكن على انقسام الزمانين لهما ، وإن تفاوتت مدتاهما ، وبقول شريح - وقد قيل له : كيف أصبحت ؟ - قال : أصبحت ونصف الناس علي غضبان ، يريد أن الناس بين محكوم له ومحكوم عليه ، فالمحكوم عليه غضبان ، والمحكوم له راض عنه ، فهما حزبان مختلفان . ويقول الشاعر :

إذا مت كان الناس نصفين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل

ومراده أنهم ينقسمون قسمين . [ ص: 10 ] قلت : ومن هذا المعنى حديث أبي هريرة المرفوع في الفرائض " أنها نصف العلم " خرجه ابن ماجه ، فإن أحكام المكلفين نوعان : نوع يتعلق بالحياة ، ونوع يتعلق بما بعد الموت ، وهذا هو الفرائض . وقال ابن مسعود : الفرائض ثلث العلم . ووجه ذلك الحديث الذي خرجه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : " العلم ثلاثة ، وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنة قائمة ، أو فريضة عادلة " . وروي عن مجاهد أنه قال : المضمضة والاستنشاق نصف الوضوء ، ولعله أراد أن الوضوء قسمان : أحدهما مذكور في القرآن ، والثاني مأخوذ من السنة ، وهو المضمضة والاستنشاق ، أو أراد أن المضمضة والاستنشاق يطهران باطن الجسد ، وغسل سائر الأعضاء يطهر ظاهره ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، ومنه قول ابن مسعود : الصبر نصف الإيمان واليقين الإيمان كله . وجاء من رواية يزيد [ ص: 11 ] الرقاشي عن أنس مرفوعا : " الإيمان نصفان : نصف في الصبر ، ونصف في الشكر " فلما كان الإيمان يشمل فعل الواجبات ، وترك المحرمات ، ولا ينال ذلك كله إلا بالصبر ، كان الصبر نصف الإيمان ، فهكذا يقال في الوضوء : إنه نصف الصلاة . وأيضا فالصلاة تكفر الذنوب والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطر الصلاة بهذا الاعتبار أيضا ، كما في " صحيح مسلم " عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما من مؤمن مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب عليه ، فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن . وفي رواية له : من أتم الوضوء كما أمره الله ، فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن [ ص: 12 ] وأيضا ، فالصلاة مفتاح الجنة ، والوضوء مفتاح الصلاة ، كما خرجه الإمام أحمد والترمذي من حديث جابر مرفوعا ، وكل من الصلاة والوضوء موجب لفتح أبواب الجنة كما في " صحيح مسلم " عن عقبة بن عامر سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ما من مسلم يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين ، يقبل عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة وعن عقبة ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء . وفي " الصحيحين " عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : من قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق ، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء . فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبا لفتح أبواب الجنة ، صار الوضوء نصف الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار . [ ص: 13 ] وأيضا ، فالوضوء من خصال الإيمان الخفية التي لا يحافظ عليها إلا مؤمن ، كما في حديث ثوبان وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن . والغسل من الجنابة قد ورد أنه أداء الأمانة ، كما خرجه العقيلي من حديث أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : خمس من جاء بهن مع إيمان ، دخل الجنة : من حافظ على الصلوات الخمس على وضوئهن وركوعهن وسجودهن ومواقيتهن ، وأعطى الزكاة من ماله طيب النفس بها - قال : وكان يقول : - وايم الله ، لا يفعل ذلك إلا مؤمن ، وصام رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وأدى الأمانة قالوا : يا أبا الدرداء ، وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن الله لم يأتمن ابن آدم على شيء من دينه غيرها . وخرج ابن ماجه من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات [ ص: 14 ] الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، وأداء الأمانة كفارة لما بينهن . قيل : وما أداء الأمانة ؟ قال : الغسل من الجنابة ، فإن تحت كل شعرة جنابة وحديث أبي الدرداء الذي قبله جعل فيه الوضوء من أجزاء الصلاة . وجاء في حديث خرجه البزار من رواية شبابة بن سوار : حدثنا مغيرة بن مسلم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة مرفوعا : " الصلاة ثلاثة أثلاث : الطهور ثلث : والركوع ثلث ، والسجود ثلث ، فمن أداها بحقها ، قبلت منه ، وقبل منه سائر عمله ، ومن ردت عليه صلاته ، رد عليه سائر عمله " وقال : تفرد به المغيرة ، والمحفوظ عن أبي صالح ، عن كعب من قوله . فعلى هذا التقسيم الوضوء ثلث الصلاة ، إلا أن يجعل الركوع والسجود كالشيء الواحد ، لتقاربهما في الصورة ، فيكون الوضوء نصف الصلاة أيضا . ويحتمل أن يقال : خصال الإيمان من الأعمال والأقوال كلها تطهر القلب وتزكيه ، وأما الطهارة بالماء ، فهي تختص بتطهير الجسد وتنظيفه ، فصارت خصال الإيمان قسمين : أحدهما يطهر الظاهر ، والآخر يطهر الباطن ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كله .



[ ص: 15 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماوات والأرض فهذا شك من الراوي في لفظه ، وفي رواية النسائي وابن ماجه : " والتسبيح والتكبير ملء السماء والأرض " . وفي حديث الرجل من بني سليم : " التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، والتكبير يملأ ما بين السماء والأرض " . وخرج الترمذي من حديث الإفريقي عن عبد الله بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تصل إليه ، وقال : ليس إسناده بالقوي . قلت : اختلف في إسناده على الإفريقي ، فروي عنه عن أبي علقمة ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه زيادة " والله أكبر ملء السماوات والأرض " . روى جعفر الفريابي في كتاب " الذكر " وغيره من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الحمد لله ملء الميزان ، وسبحان الله نصف الميزان ، ولا إله إلا الله والله أكبر ملء السماوات والأرض وما بينهن . وخرج الفريابي أيضا من حديث معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : كلمتان إحداهما من قالها لم يكن له ناهية دون العرش والأخرى تملأ ما بين السماء والأرض : لا إله إلا الله والله أكبر . [ ص: 16 ] فقد تضمنت هذه الأحاديث فضل هذه الكلمات الأربع التي هي أفضل الكلام ، وهي سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر . فأما الحمد لله ، فاتفقت الأحاديث كلها على أنه يملأ الميزان ، وقد قيل : إنه ضرب مثل ، وإن المعنى : لو كان الحمد جسما لملأ الميزان ، وقيل : بل الله عز وجل يمثل أعمال بني آدم وأقوالهم صورا ترى يوم القيامة وتوزن ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : يأتي القرآن يوم القيامة تقدمه البقرة وآل عمران كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف . وقال : " كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ، ثقيلتان في الميزان ، خفيفتان على اللسان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم . وقال : أثقل ما يوضع في الميزان الخلق الحسن ، وكذلك المؤمن يأتيه [ ص: 17 ] عمله الصالح في قبره في أحسن صورة والكافر يأتيه عمله في أقبح صورة ، وروي أن الصلاة والزكاة والصيام وأعمال البر تكون حول الميت في قبره تدافع عنه ، وأن القرآن يصعد فيشفع له . وأما سبحان الله ، ففي رواية مسلم : " سبحان الله والحمد لله تملأ - أو تملآن - ما بين السماء والأرض " فشك الراوي في الذي يملأ ما بين السماء والأرض : هل هو الكلمتان أو إحداهما ؟ وفي رواية النسائي وابن ماجه : " التسبيح والتكبير ملء السماء والأرض " وهذه الرواية أشبه ، وهل المراد أنهما معا يملآن ما بين السماء والأرض ، أو أن كلا منهما يملأ ذلك ؟ هذا محتمل . وفي حديث أبي هريرة والرجل الآخر أن التكبير وحده يملأ ما بين السماء والأرض . وبكل حال فالتسبيح دون التحميد في الفضل كما جاء صريحا في حديث علي وأبي هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، والرجل من بني سليم أن التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، وسبب ذلك أن التحميد إثبات المحامد كلها لله ، [ ص: 18 ] فدخل في ذلك إثبات صفات الكمال ونعوت الجلال كلها ، والتسبيح هو تنزيه الله عن النقائص والعيوب والآفات ، والإثبات أكمل من السلب ، ولهذا لم يرد التسبيح مجردا ، لكن مقرونا بما يدل على إثبات الكمال ، فتارة يقرن بالحمد ، كقول : سبحان الله وبحمده وسبحان الله ، والحمد لله ، وتارة باسم من الأسماء الدالة على العظمة والجلال ، كقوله : سبحان الله العظيم ، فإن كان حديث أبي مالك يدل على أن الذي يملأ ما بين السماء والأرض هو مجموع التسبيح والتكبير ، فالأمر ظاهر ، وإن كان المراد أن كلا منهما يملأ ذلك ، فإن الميزان أوسع مما ما بين السماء والأرض ، فما يملأ الميزان فهو أكبر مما يملأ ما بين السماء والأرض ، ويدل عليه أنه صح عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : يوضع الميزان يوم القيامة ، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت ، فتقول الملائكة : يا رب لمن تزن هذا ؟ فيقول الله تعالى : لمن شئت من خلقي ، فتقول الملائكة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك . وخرجه الحاكم مرفوعا وصححه ، ولكن الموقوف هو المشهور . وأما التكبير ففي حديث أبي هريرة والرجل من بني سليم أنه وحده يملأ السماوات والأرض ، وفي حديث علي أن التكبير مع التهليل يملأ ما بين السماوات والأرض وما بينهن . وأما التهليل وحده ، فإنه يصل إلى الله من غير حجاب بينه وبينه . وخرج الترمذي من حديث أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا ، إلا فتحت له أبواب السماء ، حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر . [ ص: 19 ] وقال أبو أمامة : ما من عبد يهلل تهليلة ، فينهنهها شيء دون العرش . وورد أنه لا يعدلها شيء في الميزان في حديث البطاقة المشهور ، وقد خرجه أحمد والنسائي ، وفي آخره عند الإمام أحمد : " ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم " وفي " المسند " عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة ، قال لابنه : آمرك بلا إله إلا الله ، [ ص: 20 ] فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ، ووضعت لا إله إلا الله في كفة ، رجحت بهن لا إله إلا الله . وفيه أيضا عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إن موسى عليه السلام قال : يا رب علمني شيئا أذكرك به وأدعوك به ، قال : يا موسى ، قل : لا إله إلا الله ، قال : كل عبادك يقول هذا ، إنما أريد شيئا تخصني به ، قال : يا موسى ، لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري ، والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله . وقد اختلف أي الكلمتين أفضل ؟ أكلمة الحمد أم كلمة التهليل ؟ وقد حكى هذا الاختلاف ابن عبد البر وغيره . وقال النخعي : كانوا يرون أن الحمد أكثر الكلام تضعيفا ، وقال الثوري : ليس يضاعف من الكلام مثل الحمد لله . والحمد يتضمن إثبات جميع أنواع الكمال لله ، فيدخل فيه التوحيد . وفي " مسند " الإمام أحمد عن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من الكلام أربعا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، [ ص: 21 ] فمن قال : سبحان الله ، كتبت له عشرون حسنة ، وحطت عنه عشرون سيئة ، ومن قال : الله أكبر مثل ذلك ، ومن قال : لا إله إلا الله مثل ذلك ، ومن قال : الحمد لله رب العالمين من قبل نفسه ، كتبت له ثلاثون حسنة ، وحطت عنه ثلاثون سيئة . وقد روي هذا عن كعب من قوله ، وقيل : إنه أصح من المرفوع .


وقوله صلى الله عليه وسلم : " والصلاة نور ، والصدقة برهان ، والصبر ضياء " ، وفي بعض نسخ " صحيح مسلم " : " والصيام ضياء " فهذه الأنواع الثلاثة من الأعمال أنوار كلها ، لكن منها ما يختص بنوع من أنواع النور ، فالصلاة نور مطلق ، ويروى بإسنادين فيهما نظر عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الصلاة نور المؤمن " ، فهي للمؤمنين في الدنيا نور في قلوبهم وبصائرهم ، تشرق بها قلوبهم ، وتستنير بصائرهم ولهذا كانت قرة عين المتقين ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " جعلت قرة عيني في الصلاة " خرجه أحمد والنسائي . وفي رواية : " الجائع يشبع ، والظمآن يروى ، وأنا لا أشبع من حب [ ص: 22 ] الصلاة " وفي " المسند " عن ابن عباس ، قال : قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن الله قد حبب إليك الصلاة ، فخذ منها ما شئت . وخرج أبو داود من حديث رجل من خزاعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا بلال ، أقم الصلاة وأرحنا بها " . قال مالك بن دينار : قرأت في التوراة : يابن آدم ، لا تعجز أن تقوم بين يدي في صلاتك باكيا ، فأنا الذي اقتربت بقلبك وبالغيب رأيت نوري ، يعني : ما يفتح للمصلي في الصلاة من الرقة والبكاء . وخرج الطبراني من حديث عبادة بن الصامت مرفوعا : " إذا حافظ العبد على صلاته ، فأقام وضوءها ، وركوعها ، وسجودها ، والقراءة فيها ، قالت له : حفظك الله كما حفظتني ، وصعد بها إلى السماء ، ولها نور حتى تنتهي إلى الله عز وجل ، فتشفع لصاحبها " . وهي نور للمؤمنين في قبورهم ، ولاسيما صلاة الليل كما قال أبو الدرداء : صلوا ركعتين في ظلم الليل لظلمة القبور . وكانت رابعة قد فترت عن وردها بالليل مدة ، فأتاها آت في منامها فأنشدها : [ ص: 23 ]

صلاتك نور والعباد رقود ونومك ضد للصلاة عنيد

وهي في الآخرة نور للمؤمنين في ظلمات القيامة ، وعلى الصراط ، فإن الأنوار تقسم لهم على حسب أعمالهم . وفي " المسند " و " صحيح ابن حبان " عن عبد الله بن عمر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة ، فقال : من حافظ عليها ، كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها ، لم يكن له نور ولا نجاة ولا برهان . وخرج الطبراني بإسناد فيه نظر من حديث ابن عباس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من صلى الصلوات الخمس في جماعة ، جاز على الصراط كالبرق اللامع في أول زمرة من السابقين ، وجاء يوم القيامة ، ووجهه كالقمر ليلة البدر " . وأما الصدقة ، فهي برهان ، والبرهان : هو الشعاع الذي يلي وجه الشمس ، ومنه حديث أبي موسى أن روح المؤمن تخرج من جسده لها برهان كبرهان الشمس ، ومنه سميت الحجة القاطعة برهانا ، لوضوح دلالاتها على ما دلت عليه ، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان ، وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه ، كما في حديث عبد الله بن معاوية الغاضري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان : من عبد الله وحده ، وأنه لا إله إلا الله ، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه في كل عام " وذكر الحديث ، خرجه أبو داود . [ ص: 24 ] وقد ذكرنا قريبا حديث أبي الدرداء فيمن أدى زكاة ماله طيبة بها نفسه ، قال : وكان يقول : لا يفعل ذلك إلا مؤمن . وسبب هذا أن المال تحبه النفوس وتبخل به ، فإذا سمحت بإخراجه لله عز وجل دل ذلك على صحة إيمانها بالله ووعده ووعيده ، ولهذا منعت العرب الزكاة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ، وقاتلهم الصديق رضي الله عنه على منعها ، والصلاة أيضا برهان على صحة الإسلام . وقد خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الصلاة برهان . وقد ذكرنا في شرح حديث : أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة أن الصلاة هي الفارقة بين الكفر والإسلام ، وهي أيضا أول ما يحاسب به المرء يوم القيامة ، فإن تمت صلاته فقد أفلح وأنجح ، وقد سبق حديث عبد الله بن عمرو فيمن حافظ عليها أنها تكون له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة . وأما الصبر فإنه ضياء ، والضياء : هو النور الذي يحصل فيه نوع حرارة وإحراق كضياء الشمس بخلاف القمر ، فإنه نور محض ، فيه إشراق بغير إحراق ، قال الله عز وجل : هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا [ يونس : 5 ] ومن هنا وصف الله شريعة موسى بأنها ضياء ، كما قال : ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين [ الأنبياء : 48 ] [ ص: 25 ] وإن كان قد ذكر أن في التوراة نورا كما قال : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور [ المائدة : 44 ] ، ولكن الغالب على شريعتهم الضياء لما فيها من الآصار والأغلال والأثقال . ووصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها نور لما فيها من الحنيفية السمحة ، قال الله تعالى : قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين [ المائدة : 15 ] وقال : الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون [ الأعراف : 157 ] . ولما كان الصبر شاقا على النفوس ، يحتاج إلى مجاهدة النفس وحبسها وكفها عما تهواه ، كان ضياء ، فإن معنى الصبر في اللغة الحبس ، ومنه قتل الصبر : وهو أن يحبس الرجل حتى يقتل . والصبر المحمود أنواع : منه صبر على طاعة الله عز وجل ، ومنه صبر عن معاصي الله عز وجل ، ومنه صبر على أقدار الله عز وجل ، والصبر على الطاعات وعن المحرمات أفضل من الصبر على الأقدار المؤلمة ، صرح بذلك السلف ، منهم سعيد بن جبير ، وميمون بن مهران وغيرهما . وقد روي بإسناد ضعيف من حديث علي مرفوعا " إن الصبر على المعصية يكتب به للعبد ثلاثمائة درجة ، وإن الصبر على الطاعة تكتب به ستمائة درجة ، وإن الصبر عن المعاصي يكتب له به تسعمائة درجة " ، وقد خرجه ابن أبي الدنيا وابن جرير الطبري . [ ص: 26 ] ومن أفضل أنواع الصبر : الصيام ، فإنه يجمع الصبر على الأنواع الثلاثة ، لأنه صبر على طاعة الله عز وجل ، وصبر عن معاصي الله ، لأن العبد يترك شهواته لله ونفسه قد تنازعه إليها ، ولهذا في الحديث الصحيح : إن الله عز وجل يقول : كل عمل ابن آدم له إلا الصيام ، فإنه لي وأنا أجزي به ، إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي ، وفيه أيضا صبر على الأقدار المؤلمة بما قد يحصل للصائم من الجوع والعطش ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسمي شهر الصيام شهر الصبر . وقد جاء في حديث الرجل من بني سليم عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الصوم نصف الصبر ، وربما عسر الوقوف على سر كونه نصف الصبر أكثر من عسر الوقوف على سر كون الطهور شطر الإيمان ، والله أعلم . وقوله صلى الله عليه وسلم : والقرآن حجة لك أو حجة عليك ، قال الله عز وجل : وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا [ الإسراء : 82 ] . قال بعض السلف : ما جالس أحد القرآن ، فقام عنه سالما ؛ بل إما أن يربح أو أن يخسر ، ثم تلا هذه الآية . وروي عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يمثل القرآن يوم القيامة رجلا ، فيؤتى بالرجل قد حمله ، فخالف أمره ، فيتمثل له خصما ، فيقول : يا رب حملته إياي فشر حامل تعدى حدودي ، وضيع فرائضي ، وركب معصيتي ، وترك طاعتي ، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال : شأنك به ، فيأخذه بيده ، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار ، ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله وحفظ أمره ، فيمتثل خصما دونه ، فيقول : يا رب حملته إياي ، فخير حامل : حفظ حدودي ، وعمل بفرائضي ، واجتنب معصيتي ، واتبع طاعتي ، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال : شأنك به ، فيأخذه بيده ، فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق ، ويعقد عليه تاج الملك ، ويسقيه كأس الخمر . وقال ابن مسعود : القرآن شافع مشفع وماحل مصدق ، فمن جعله أمامه ، قاده إلى الجنة ، ومن جعله خلف ظهره ، قاده إلى النار . وعنه قال : يجيء القرآن يوم القيامة ، فيشفع لصاحبه ، فيكون قائدا إلى الجنة ، أو يشهد عليه ، فيكون سائقا إلى النار . [ ص: 28 ] وقال أبو موسى الأشعري : إن هذا القرآن كائن لكم أجرا ، وكائن عليكم وزرا ، فاتبعوا القرآن ، ولا يتبعكم القرآن ، فإنه من اتبع القرآن هبط به على رياض الجنة ، ومن اتبعه القرآن زج في قفاه ، فقذفه في النار .


قوله صلى الله عليه وسلم : " كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها " وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الناس غاديان ، فمبتاع نفسه ، فمعتق نفسه وموبقها " . وفي رواية خرجها الطبراني . " الناس غاديان : فبائع نفسه فموبقها ، وفاد نفسه فمعتقها " . وقال الله عز وجل : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها [ الشمس : 7 - 10 . ] ، والمعنى : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، وخاب من دساها بالمعاصي ، فالطاعة تزكي النفس وتطهرها فترتفع ، والمعاصي تدسي النفس وتقمعها فتنخفض ، وتصير كالذي يدس في التراب . ودل الحديث على أن كل إنسان فهو ساع في هلاك نفسه ، أو في فكاكها ، فمن سعى في طاعة الله ، فقد باع نفسه لله ، وأعتقها من عذابه ، ومن سعى في معصية الله ، فقد باع نفسه بالهوان ، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه ، قال الله عز وجل : إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة إلى قوله : فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم [ التوبة : 111 ] ، وقال تعالى : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد [ البقرة : 207 ] [ ص: 29 ] وقال تعالى : قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [ الزمر : 15 ] وفي " الصحيحين " عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه : وأنذر عشيرتك الأقربين [ الشعراء : 214 ] يا معشر قريش ، اشتروا أنفسكم من الله ، لا أغني عنكم من الله شيئا ، يا بني عبد المطلب ، لا أغني عنكم من الله شيئا وفي رواية للبخاري : " يا بني عبد مناف ، اشتروا أنفسكم من الله ، يا بني عبد المطلب ، اشتروا أنفسكم من الله ، يا عمة رسول الله ، يا فاطمة بنت محمد ، اشتريا أنفسكما من الله ، لا أملك لكما من الله شيئا " . وفي رواية لمسلم أنه دعا قريشا فاجتمعوا ، فعم وخص ، فقال : يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا . وخرج الطبراني والخرائطي من حديث ابن عباس مرفوعا : " من قال إذا أصبح : سبحان الله وبحمده ألف مرة ، فقد اشترى نفسه من الله تعالى ، وكان من آخر يومه عتيقا من النار " . وقد اشترى جماعة من السلف أنفسهم من الله عز وجل بأموالهم ، فمنهم [ ص: 30 ] من تصدق بماله كله كحبيب أبي محمد ، ومنهم من تصدق بوزنه فضة ثلاث مرات أو أربعا ، كخالد الطحاوي . ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول : إنما أنا أسير أسعى في فكاك رقبتي ، منهم عمرو بن عتبة ، وكان بعضهم يسبح كل يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته ، كأنه قد قتل نفسه ، فهو يفتكها بديتها . قال الحسن : المؤمن في الدنيا كالأسير ، يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئا حتى يلقى الله عز وجل . وقال : ابن آدم ، إنك تغدو وتروح في طلب الأرباح ، فليكن همك نفسك ، فإنك لن تربح مثلها أبدا . قال أبو بكر بن عياش : قال لي رجل مرة وأنا شاب : خلص رقبتك ما استطعت في الدنيا من رق الآخرة ، فإن أسير الآخرة غير مفكوك أبدا ، قال : فوالله ما نسيتها بعد . وكان بعض السلف يبكي ، ويقول : ليس لي نفسان ، إنما لي نفس واحدة ، إذا ذهبت لم أجد أخرى . وقال محمد ابن الحنفية : إن الله عز وجل جعل الجنة ثمنا لأنفسكم ، فلا تبيعوها بغيرها . وقال : أيضا من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر . وقيل له : من أعظم الناس قدرا ؟ قال : من لم ير الدنيا كلها لنفسه خطرا . وأنشد بعض المتقدمين : [ ص: 31 ]

أثامن بالنفس النفيسة ربها وليس لها في الخلق كلهم ثمن بها تملك الأخرى فإن أنا بعتها
بشيء من الدنيا ، فذاك هو الغبن لئن ذهبت نفسي بدنيا أصيبها
لقد ذهبت نفسي وقد ذهب الثمن




الخدمات العلمية