الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 406 ] ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائة

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      فيها أغار إسترخان الخوارزمي في جيش من الأتراك على ناحية أرمينية ، فدخلوا تفليس ، وقتلوا خلقا ، وأسروا كثيرا من المسلمين وأهل الذمة ، وممن قتل يومئذ حرب بن عبد الله الراوندي الذي تنسب إليه الحربية ببغداد ، وكان مقيما بالموصل في ألفين لمقابلة الخوارج ، فسيره المنصور لمساعدة المسلمين ببلاد أرمينية ، فكان في جيش جبرئيل بن يحيى ، فهزم جبرئيل ، وقتل حرب ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه السنة كان مهلك عبد الله بن علي عم المنصور ، الذي أخذ الشام ، من أيدي بني أمية ، ثم كان عليها حتى مات السفاح ، فدعا إلى نفسه ، فبعث إليه المنصور أبا مسلم الخراساني ، فهزمه ، وهرب عبد الله إلى عند أخيه سليمان بن علي بالبصرة ، فاختفى عنده مدة ، ثم ظهر المنصور على أمره ، فاستدعاه وسجنه ، فلما كان في هذه السنة عزم المنصور على الحج ، فطلب ابن عمه عيسى بن موسى - وكان ولي العهد من بعد المنصور عن وصية السفاح - وسلم إليه عمه عبد الله بن علي ، وقال له : إن هذا عدوي وعدوك ، فاقتله في غيبتي عنك ولا تتوان . وسار المنصور إلى الحج ، وجعل يكتب إليه من الطريق يستحثه في ذلك ويقول له : ماذا صنعت فيما أوعزت إليك فيه؟ مرة بعد مرة . [ ص: 407 ] وأما عيسى بن موسى فإنه لما تسلم عمه حار في أمره ، وشاور بعض أهله ، فأشار بعضهم ممن له رأي أن المصلحة تقتضي أن لا تقتله وأخفه عندك ، وأظهر قتله; فإنا نخشى أن يطالبك به جهرة ، فتقول : قتلته . فيأمر بالقود ، فتدعي أنه أمرك بقتله في السر ، فتعجز عن إثبات ذلك فيقتلك به ، وإنما يريد المنصور قتله وقتلك ليستريح منكما معا . فتبصر عيسى بن موسى عند ذلك ، وأخفى عمه ، وأظهر أنه قتله ، فلما رجع المنصور من الحج أمر أهله أن يدخلوا عليه ، ويشفعوا في عبد الله بن علي ، فجاءوا كلهم فدخلوا عليه ، وشفعوا في عبد الله بن علي وألحوا في ذلك ، فأجابهم إليه ، واستدعى عيسى بن موسى وقال له : إن هؤلاء قد شفعوا علي في عبد الله بن علي ، وقد أجبتهم إلى ما طلبوا ، فسلمه إليهم . فقال عيسى : وأين عبد الله؟ ذاك قتلته منذ أمرتني . فقال المنصور : لم آمرك بذلك . وجحد أن يكون تقدم إليه منه أمر في ذلك ، فأحضر عيسى الكتب باستحثاثه في ذلك مرة بعد مرة ، فأنكر أن يكون أراد ذلك ، وصمم على الإنكار ، وصمم عيسى بن موسى أنه قد قتله ، فأمر المنصور عند ذلك بقتله قصاصا بعبد الله ، فخرج به بنو هاشم ليقتلوه ، فلما جاءوا بالسيف قال : ردوني إلى الخليفة . فردوه إليه ، فقال له : إن عمك حاضر ، ولم أقتله . فقال : هلم به . فأحضره ، فسقط في يد الخليفة ، وأمر بسجنه في دار جدرانها مبنية على ملح ، فلما كان من الليل أرسل على جدرانها الماء ، فسقط عليه البناء ، فهلك ، رحمه الله .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 408 ] ثم إن المنصور خلع عيسى بن موسى عن ولاية العهد ، وقدم عليه ابنه المهدي ، فكان يجلسه فوق عيسى عن يمينه ، ثم كان بعد ذلك لا يلتفت إلى عيسى بن موسى ، ويهينه في الإذن والمشورة والدخول عليه والخروج من عنده ، بعد ما كان حظيا عنده قبل ذلك جدا ، ثم ما زال يقصيه ويبعده ويتهدده ويتوعده ، حتى خلع نفسه بنفسه وبايع لمحمد ابن المنصور ، وأعطاه المنصور على ذلك نحوا من اثنى عشر ألف ألف درهم ، وانصلح أمر عيسى بن موسى وبنيه عند المنصور ، وأقبل عليه بعدما كان قد أعرض عنه ، وكان قد جرت بينهما مكاتبات كثيرة جدا ، ومراوضات في تمهيد البيعة لابنه المهدي وخلع عيسى نفسه ، وأن العامة لا يعدلون بالمهدي أحدا ، وكذلك الأمراء والخواص ، ولم يزل به حتى أجاب إلى ذلك مكرها ، فعوضه عن ذلك ما ذكرنا ، وسارت بيعة المهدي في الآفاق شرقا وغربا ، وبعدا وقربا ، وفرح المنصور بذلك فرحا شديدا ، واستقرت الخلافة في ذريته إلى زماننا هذا ، فلم يكن خليفة من بني العباس إلا من سلالته ، ذلك تقدير العزيز العليم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وفيها توفي عبيد الله بن عمر العمري ، وهاشم بن هاشم ، وهشام بن حسان صاحب الحسن البصري .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية