الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب ، وأن فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب ; كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط .

واختلفوا هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب ; فذهب القاضي أبو بكر بن الطيب والطبري وغيرهما إلى أن ذلك لا يوجد فيه ، وأن القرآن عربي صريح ، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات إنما اتفق فيها أن تواردت اللغات عليها فتكلمت بها العرب والفرس والحبشة وغيرهم ، وذهب بعضهم إلى وجودها فيه ، وأن تلك الألفاظ لقلتها لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا ، ولا رسول الله عن كونه متكلما بلسان قومه . فالمشكاة الكوة . ونشأ : قام من الليل ; ومنه : إن ناشئة الليل [ المزمل : 6 ] و يؤتكم كفلين [ الحديد : 28 ] أي ضعفين . و فرت من قسورة [ المدثر : 51 ] أي الأسد ; كله بلسان الحبشة . والغساق : البارد المنتن بلسان الترك ، والقسطاس : الميزان ; بلغة الروم . والسجيل : الحجارة والطين بلسان الفرس . والطور : الجبل . واليم : البحر بالسريانية . والتنور : وجه الأرض بالعجمية .

قال ابن عطية : " فحقيقة العبارة عن هذه الألفاظ أنها في الأصل أعجمية لكن استعملتها العرب وعربتها فهي عربية بهذا الوجه . وقد كان للعرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات ، وبرحلتي قريش ، وكسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام ، وكسفر عمر بن الخطاب وكسفر عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة ، وكسفر الأعشى إلى الحيرة ، وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة ; فعلقت العرب بهذا كله ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها ، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة ، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها ، حتى جرت مجرى العربي الصحيح ، ووقع بها البيان ; وعلى هذا الحد نزل بها القرآن . فإن جهلها عربي ما فكجهله الصريح بما في لغة غيره ، كما لم يعرف ابن عباس معنى ( فاطر ) إلى غير ذلك . قال ابن عطية : " وما ذهب إليه الطبري رحمه الله من أن اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد ; بل إحداهما أصل والأخرى فرع في الأكثر ; لأنا لا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذا " .

قال غيره : والأول أصح . وقوله : هي أصل في كلام غيرهم دخيلة في كلامهم ، ليس بأولى من العكس ، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أو لا ، فإن كان الأول فهي من كلامهم ، إذ [ ص: 71 ] لا معنى للغتهم وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم ، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم ، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة .

فإن قيل : ليست هذه الكلمات على أوزان كلام العرب فلا تكون منه . قلنا : ومن سلم لكم أنكم حصرتم أوزانهم حتى تخرجوا هذه منها ; فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحوية ، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها ولا عرفتها استحال أن يخاطبهم الله بما لا يعرفون ، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا ، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية